رمضان بين حزن الفراق وفرحة العيد

هاهو رمضان قد حزم أمتعته، وجمع فيوضات بركاته وصار قمره كالعرجون القديم وآذن بالرحيل إلى ماضي الزمان ليصير تاريخا وذكرى، وهاهم المسلمون في شتى أنحاء العالم يرصدون هلال العيد بوسائلهم المتطورة التي لم تمنعهم مع ذلك من الاختلاف في رؤية هلال قمر قريب من الأرض، رغم أنّنا في عصر صار فيه الفلكيون يتابعون الأجرام التي تبعد عن الأرض ملايين السنوات الضوئية.

وفي مثل هذا الزمن المفصليّ بين رمضان المدبر والعيد المقبل تزدوج المشاعر وتتشابك الأحاسيس بين حزن خفيف على فراق الشهر المبارك وفرح ظاهر باستقبال عيد الفطر. والحسرة على فراق هذا الشهر سببها ما نفتقده بخروجه، لكنّ ما يفتقده الناس ويتحسرون عليه يختلف من شخص إلى آخر.

هناك من يفتقد بعد رمضان أشواق الروح وطمأنينة القلب القانت، فيتحسّر على لذة غذاء خفيّ يدلف إلى بواطن سرّه من وراء أستار الغيب، وأروع ما في هذا الغذاء أنّ لذة مذاقه تبلغ أقصى مداها في لحظات الامتناع عن الغذاء، فكأنّ الصائم القانت في حضرة ربّه يطعمه ويسقيه، لكنّه طعام لا يمرّ عبر الحواس الشهوانية للجسد، وتعجز عن وصفه الألسن، إنّه أمر من أمور الله التي يترشفها الشعور ولا تُحكى. وأمثال هؤلاء إنما يتحسّرون على مظلة البركة التي ترفع، وعلى أريج نسائم الجنة التي يعلمون من ربّهم أنّ أبوابها تفتح في رمضان، إنّهم يتحسّرون على التراويح وعلى الدعوات والتسابيح، ويحزنون لفراق متعة العبادة الخاشعة، ويأسفون للخروج من زمن استثنائي منفتح على المطلق.

وفي مقابل هؤلاء أصناف من الناس لهم مآرب مادية شتى تزول عنهم أو يزولون عنها بعد رمضان. فهناك من يتحسّر على تجارته التي يكثر عليها الإقبال وخاصة في الأيام التجارية التي تقام في أواخر الشهر. ولكن إيّاك أن تظنّ أنّ التجارة في هذا الشهر محرّمة أو مكروهة، فالإسلام دين واقعيّ يبيح الجمع بين العبادات الروحية والمنافع المادية، خذ الحج مثلا، فقد تكلّم القرآن على مقاصده الروحية لكنّه أشار إلى منافعه المادية في قوله تعالى ﴿لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ (سورة الحج : الآية 28) وقال أيضا في خصوص ما يجوز فعله أيام الحج ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ (سورة البقرة : الآية 198) والمقصود بذلك فضل التجارة والتسوّق، كذلك فلا جناح على الناس أن يبتغوا في رمضان فضلا من ربّهم بالنّشاط الاقتصادي المباح. لكنّ ذلك مشروط بأن لا تطغى الرغبات المادية فتكون هي المقصد الأسمى على حساب العبادة، وأن يتّقي التجّار الصّائمون ربّهم في المستهلكين الصّائمين مثلهم.

وهناك من يتحسّر على وجبة المسلسلات الدسمة التي تصيب الأذهان بتخمة تسمّرهم إلى المقاعد و بطونهم ملآنة بشتّى أصناف المآكل الثقيلة. وهناك من يتحسّر على مفارقة الأطعمة التي تزداد حلاوتها في رمضان كالبريك والشربة والبوزة وغيرها. وممّا قاله الشاعر حسين الجزيري في ذلك متحسّرا على فراق رمضان :

سلام علـــى الدنيا سلام مودّع فذا رمضـــــــــان قـــــــــــــــال إنّي مودّع

سنترك هاتيك الصحون حقيرة وليس لنا في ذي البحابح مطمع

لذلك نرجوه الرجــــــوع بسرعـــــــــة ويـــــا حبّذا لو بعــــــد شهريـــن يرجع

ولا أخفيك أيّها القارئ الوفيّ أنّي أتحسّر على مفارقة هذا الملحق الجليل الذي وجدت متعة لطيفة وأنا أبثّ فيه بعض شجون قلمي مستلهما فيوضات البركة الرمضانيّة.

لكنّ الحزن على ذهاب رمضان بما يهوى الناس له سلوى تعويضية هي الفرح بعيد الفطر كما قال الجزيري :

خليليّ إنّ الصّوم راح بما نهوى وخلّف عيد الفطـــــــر من بعـــده السلوى

وما إن تبدّى العيــد حتّى تألّفت صحون بها كل الصنوف من الحلوى

وإيّاك أن تظنّ أنّ فرحة العيد شعور آثم نختلسه من قداسة البركة، بل هي فرحة يباركها الرحمان، وما العيد إلاّ تشريع ديني لبهجة السرور، وهذه الفرحة مزدوجة بين الدين والدنيا، لأنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم أكّد أنّ الصّائم له فرحتان : فرحة بفطره، وفرحة بصومه يوم لقاء ربّه، وفرحة الفطر هي فرحة الطبيعة البشرية حين تعود إلى طبيعتها بعد ضغوط الاتصاف بالصمدية نهارا، إذ أنّ من معاني الصمد فراغ الجوف. أمّا الفرحة الأخرى فهي فرحة أداء العبادة وتحصيل الثواب، وفي بعض الروايات أنّ يوم العيد هو يوم الجائزة حيث ينظر الله إلى عباده الذين تركوا شهواتهم طيلة رمضان من أجله فيجازيهم بثواب لا يعلم مقداره إلا هو سبحانه. والجائزة إنّما تأتي في نهاية العمل، ولا شكّ أنّ من يتحصّل على جائزة يفرح بها مهما كانت بسيطة أو رمزية، فما بالك بها حين تكون من الله تعالى، وحين تكون مغفرة للذنوب ووعدا بالجنّة، فهي أحق بالفرح.

وممّا يؤكّد التكامل بين التديّن والفرح الدنيوي، تشريع صلاة العيد التي هي عبادة يفتتح بها اليوم، و إيجاب إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد بوصفها عبادة اجتماعية يرسّخ بها الإسلام مبدأ التضامن حتّى لا تكون فرحة العيد خاصة بفئة دون أخرى إذ ينبغي أن تكون عامة تشمل الأغنياء والفقراء والكبار والصغار.

إنّ العيد يوم زينة وفرح يباركهما الإسلام، وهو فرصة للتزاور ونبذ المشاحنات التي يحبّ الإسلام انتشارها في المجتمع، بل لا بدّ من صلة الرحم وتبادل العفو والصفح، وتبادل التهاني. فاليوم يوم بركة، ويوم بهجة موصولة بالعبادة والشكر. لذلك لا يسعني إلاّ أن أتمنّى لأصحاب هذه الجريدة والمشرفين عليها ولكافة القراء والإعلاميين و كافّة التونسيّين قيادة و شعبا والمسلمين في كلّ مكان أفضل البركات وأسمى الدرجات بهذا العيد الميمون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق