مسألة الكبائر وظهور الفرق في الإسلام

ظهر منذ العصر التأسيسي المبكّر أنّ الإسلام أسّس أمّة مستقلة من دون الناس تتميّز بمواصفات خصوصية تحدّد روابط وحدتها، وقد كان نزول القرآن بالبيّنات، وحضور النبي القائد والمؤسّس إلى جانب حماسة الاندفاعة الأولى عوامل مركزية في عصمة الجيل الأوّل من الفرقة زمن الوحي.

وحين توفّي الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقدت الأمة غطاء العصمة المسدّدة بالوحي، وتحمّلت مسؤوليات مواصلة بناء مشروع الأمة الواحدة في غياب ضمانات الصواب المطلق. فبعد أن كان النص الديني يمارس مباشرة فعل التخطئة والتصويب ويصدر الأحكام الفاصلة في الخلافات صار مصدرا مختوما، أو مرجعا قبلياً مكتملاً يرجع إليه المسلمون بواسطة الاجتهاد غير المعصوم فيؤوّلون منطوقه ويستنتجون المفاهيم ممّا سكت عنه. ولم تمنعهم المرجعية النصية الواحدة من الاختلاف، ليس لأنّهم أحدثوا مرجعيات أخرى باحثة عن العصمة كإجماع الأمة وعصمة الأئمة فحسب، بل لأنّهم اختلفوا في فهم النص الديني رغم اتفاقهم على تحكيمه فيما شجر بينهم.

وقد تضمّن القرآن الكريم عدّة آيات تنهى عن الفرقة والفتنة والاختلاف مثل قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كالذِينَ تَفَرَّقـُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ البَيِّنَاتُ وَأولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران: 105) و﴿إِنَّ الذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾(الأنعام: 159).

وغنيّ عن البيان أنّ مثل هذه النّصوص النّاهية عن التفرّق لا تشمل الخلافات الجزئية التي يمكن معالجتها بالحوار الفقهي الذي أظهر فيه كبار الأئمّة قدراً من التسامح المعقول مع المخالفين مقرّين بأنّهم يتحرّكون عموما داخل دائرة الاحتمال، بحكم أنّ اجتهاداتهم هي صواب يحتمل الخطأ واجتهادات المخالفين هي خطأ يحتمل الصواب. وهم بناء على ذلك بعيدون عن دائرة الذنوب والآثام، ويجتهدون تحت غطاء الأجر والثواب وإن أخطأوا، وإنّما يقع التفاوت بينهم في مراتب الأجر الذي قد يكون واحداً عند الخطأ، وقد يتضاعف عند الصواب.

لكنّ الخلاف الذي تنهى عنه النصوص هو الذي يصادم ما جاء من (البيّنات) ويحدث الفُرقة في الأمّة، ويمزّق وحدتها (شِيَعًا) متدافعة إلى حدّ التقاتل، ويحدث فتنة هي أشدّ من القتل لا تصيب نتائجها الظالمين الذين أحدثوها فحسب، بل يبلغ شررها الأبرياء الذين ليسوا طرفا فيها كما قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الذينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾(الأنفال: 25).

وبهذا يكون القرآن قد وضع الخلافات المشتّتة لشمل الأمّة في دائرة ذنب عظيم هو (الفتنة). وقد كان هذا المصطلح حاضرا بقوّة في الخلافات المبكّرة حتى وُصف زمن النزاعات الأولى على الخلافة في عهد الصحابة بأنّه عصر (الفتنة الكبرى).

وما نظنّ أنّ المسلمين العاديين -فضلا عن العارفين منهم- كانت تخفى عليهم المخاطر الكارثية للفتنة على المستويين الديني والسياسي، خصوصا وأنّ النصوص الدينية التي تحذّر من الوقوع فيها وتؤثـّم أصحابها كانت كثيرة وكفيلة بأن تحدث في الأمّة وعيا مضادّا للفرقة والنزاع.

لكنّ الإشكال ليس في غياب الوعي المضاد للفتنة وإنّما في غياب الاتفاق على مقاييس متّحدة أو متقاربة للتمييز بين الفاتن والمفتون، أو بين المذنب والبريء. لأنّ كلّ فريق من المتنازعين كان يضع نفسه في إطار الفرقة الناجية ويلزمها تديّنا بالدخول في النزاع دفعا للفتنة، ويتّهم الآخرين بإحداثها وبأنّهم أهل بدع وأهواء، فصار الذنب بذلك تهمة متبادلة، وصار الصلاح أو تزكية الذات مقصدا يتجاذبه المتنازعون، ويتداعى عليه المدّعون.

وما نظنّ أنّنا نبالغ حين نؤكّد أنّ مسألة الذنوب كانت محرّكا مركزيّا لنشأة أغلب الفرق الإسلامية، وأنّ مجمل مسائل الخلاف وكبرياتها الأولى على الخصوص ترتدّ في نهاية التحليل إليها بصفة مباشرة أو غير مباشرة.

وليس في ذلك نفي للظروف التاريخية والعوامل الموضوعية التي تلبّست بها بدايات النشأة وبقية مراحل التكوّن والتطوّر، بل إنّ تلك الظروف الواقعية هي التي أدّت إلى استحداث مبادرات سياسية ومقالات دينية رأتها أطراف طاعة وصوابا، ورأتها أطراف أخرى أخطاء ووصفتها بأوصاف سلبية متفاوتة أو متقاربة كالكفر، والبدعة، والفسوق، والعصيان، ونحو ذلك، فالإسلام دين معياري يقوّم معتقدات الناس وسلوكاتهم بمعايير الطاعة والمعصية، ولذلك أحكام في الدنيا وأخرى في الآخرة، لهذا تجد الأتباع حريصين على الالتزام بما يرونه طاعة حذرا من الوقوع فيما يرونه معصية وذنبا.

ولقد كان لكل فرقة منطقها الداخلي ومقالاتها الراسخة التي تحصّن بها مذهبها معتقدة أنّه هو الحق الذي خاطب به الإسلام كافة الناس، وأنّ غيرها من الفرق خرجت عن الحق الذي كانت عليه جماعة الإسلام الأولى في العصر التأسيسي وفي عصر السلف القريب الذي يليه، وهذا يعني أنّ الفرقة تضع نفسها في محور الطاعة وتُلقي بغيرها في محور الذنب وجحيم المعصية.

وليس من العسير على الناظر في كتب المقالات ومصنّفات الفرق أن يستنتج أنّ تاريخ الفرق الإسلامية كان في جوهره تاريخا للخلاف بقدر ما هو تاريخ للذنوب أو للتبديع والتأثيم المتبادلين.

البدايات الآثمة

لم يكتف المؤرّخون للفرق بالكلام على بدايات الخلاف في لحظاتها التاريخية المزامنة لنشأة التكتلات المتنازعة، بل أمعن عدد منهم في تأصيل التأثيم فتكلفوا إرجاع ذنوب مخالفيهم وشبهاتهم إلى بدايات قبل البدايات، أي إلى منطلقات أولى آثمة كانت البدايات الفعلية في نظرهم امتدادا لها، فصار بذلك ما قبل التاريخ متحكّما في التاريخ، وكأنّ التاريخ تاريخان: تاريخ قبلي مكنون وجاهز للولادة والظهور، وتاريخ ظاهر منبثق من رحم الحتميات القبلية.

ومن أشهر الذين تبنّوا هذا التوجّه في تأصيل الخلاف عبد الكريم الشهرستاني (ت: 548هـ/ 1153م) فقد وضع الفرق المخالفة لأهل السنّة موضع التهمة، ووصف مقالاتهم بأنّها شبهات، ثمّ تكلـّف تأصيلها بإعادتها إلى جذور سابقة على نشأتها فربطها بشبهات قديمة حصرها في بدايتين: بداية أوّل الزمان، وبداية زمان النبوّة:

1- بداية أوّل الزمان أو الكمون الأوّل

أسّس الشهرستاني جميع الشبهات التي حدثت في تاريخ العالم عموما والفرق الإسلامية خصوصا على الخطيئة الإبليسية الأولى، فقال: (اعلم أنّ أوّل شبهة وقعت في الخليقة شبهة إبليس لعنه الله، ومصدرها استبداده بالرّأي في مقابلة النص، واختياره الهوى في معارضة الأمر، واستكباره بالمادة التي خُلق منها وهي النار على مادّة آدم -عليه السلام- وهي الطين، وانشعبت من هذه الشبهة سبع شبهات، وسارت في الخليقة، وسرت في أذهان الناس حتى صارت مذاهب بدعة وضلال)(1).

ولمّا لم تكن هذه الشبهات السبع موجودة في القرآن والسنّة رجع إلى التوراة والأناجيل الأربعة فجمعها من مواضع متفرّقة وردت في بعضها على شكل محاورات بين إبليس والملائكة بعد الأمر بالسجود والامتناع عنه. وقد صاغ الشهرستاني هذه الشبهات في سبعة أسئلة تعود في عمومها إلى استشكال حكمة الله تعالى في تكليفه بالسجود لآدم وتسليطه على ذريته بالوسوسة، وطرده من الجنة، ونحو ذلك من أسئلة تثير قضايا الجبر والاختيار(2).

ثمّ ختم تفصيله لهذه الشبهات ببيان انشعاب مقالات الفرق المخالفة منها، فتكلـّف ربط أبرز مقالات الروافض والخوارج والجبرية والقدرية والمعتزلة والمشبهة بما رآه يطابقها من شبهات إبليس(3).

وليس من غرضنا متابعة تفصيل ما ذكره بالتحليل والنقد وإنّما الذي يهمّنا تسجيل المنطلق التأثيمي الذي أسّس عليه مقالات الفرق المخالفة رغم أنّه شرط على نفسه في البداية عدم التعصّب(4). فقد بدأ كلامه على تاريخ الفرق بمنهج غير تاريخي مدعوم بنصوص يعتقد أنّها محرّفة، إذ المهمّ عنده إبراز هذا الحكم المعياريّ المخطّئ، وبيان أنّ كلّ ما يقوله المخالفون كان في البدء كامنا في شبهات الخطيئة الإبليسية الأولى، وهم لم يفعلوا سوى أن أثاروا من جديد ما قاله إبليس في أوّل الزمان، فاستشكلوا ما استشكل وفصّلوا ما أجمل.

ولم يشأ الشهرستاني أن يربط شبهات الفرق بالخطيئة الآدمية الأولى، ليس لأنّه كان عاجزاً عن تكلـّف التخريجات الملائمة، وإنّما بسبب أنّ ذنب آدم غفره الله له، وفي ذلك متنفّس تيسيري للفرق الآثمة عنده. أمّا خطيئة إبليس فلم تعقبها توبة ولا غفران بل إنظار إلى يوم البعث ووعيد بالخلود في النار، وبما أنّ مصيره البائس يشمل أتباعه فهو يشمل الفرق التي أظهرت شبهاته التأسيسية وعملت على نشرها في الأمّة.

وما نظنّ أنّ تأصيل الخلاف بهذه الطريقة يترك مجالاً للحوار والتوحّد.

2- بداية زمن النبوّة أو الكمون الثاني

بعد أن أكّد الشهرستاني أنّ شبهات آخر الزمان مطابقة لشبهات أوّله قام بتأصيل ثانٍ للخلاف خصّصه بأزمنة النبوات ثمّ بزمن نبوة محمد -صلى الله عليه وسلـّم- فقال: (كما قرّرنا أنّ الشبهات التي في آخر الزمان هي بعينها تلك الشبهات التي وقعت في آخر الزمان، كذلك يمكن أن يقرّر في زمان كل نبي، ودور كل صاحب ملة وشريعة أنّ شبهات أمّته في آخر زمانه ناشئة من شبهات خصماء أوّل زمانه من الكفار والمنافقين، وأكثرها من المنافقين وإن خفي علينا ذلك في الأمم السالفة لتمادي الزمان، فلم يخف في هذه الأمة أنّ شبهاتها نشأت كلها من شبهات منافقي زمن النبي -عليه السلام-، إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهي، وشرعوا فيما لا مسرح للفكر فيه ولا مسرى، وسألوا عمّا منعوا من الخوض فيه والسؤال عنه، وجادلوا في الباطل فيما لا يجوز الجدل فيه)(5). ثمّ بيّن أنّ اعتراضات المنافقين في زمن النبي -صلى الله عليه وسلـّم- كالبذور، وأنّ شبهات الفرق التي ظهرت بعد ذلك كالزروع(6).

وهكذا صار تاريخ الفرق الضالـّة بالشبهات كامنا في زمن سابق هو زمن النبوة، وجميع ما قالوه إنّما هو زروع ظهرت من البذور التي أسّسها المنافقون باعتراضاتهم على النبي -صلى الله عليه وسلـّم-.

وليس مهمّا بعد هذا التأصيل أن نقرأ التاريخ الفعلي للفرق، ولا أن نبحث عن صيغ معقولة لإدارة الخلاف وتذليل صعوباته، لأنّ زمن النبوّة الذي أسّس أصول الطاعة والصلاح هو الذي تأسّست فيه بذور المقالات الآثمة، ولم تفعل الفرق المخالفة سوى أن أظهرت زروع البذور التي أنشأها المنافقون وخصوم النبي -صلى الله عليه وسلـّم-. فالتاريخ اللاحق قدره كامن في التاريخ السابق، وبداية الخلاف بدأت قبل البداية، ومصير النزاع حُسم فيه منذ العصر التأسيسي.

وبهذا يكون الشهرستاني قد أغلق منافذ التفاهم منذ المنطلق؛ لأنّ موقفه ينضج تكفيراً وإن لم يصرّح به لفظا، إذ ليس فوق ربط شبهات الفرق بشبهات إبليس والمنافقين تهمة، والجميع بهذا الاعتبار مخلـّدون في النّار. أمّا التاريخ الذي كتبه في بقية الكتاب فهو بناء على هذا التأصيل ليس تاريخا موضوعيا، بل هو تاريخ أخطاء المخالفين وفضائحهم قصد التحذير من الوقوع فيها والافتتان بها.

البدايات الفعلية أو تاريخ ظهور الذنوب

بدأ أبو الحسن الأشعري كلامه عن الخلاف بين المسلمين من بدايته الفعلية بعد النبي -صلى الله عليه وسلـّم- فقال: (اختلف الناس بعد نبيّهم -صلى الله عليه وسلـّم- في أشياء كثيرة ضلـّل فيها بعضهم بعضا، وبرئ بعضهم من بعض، فصاروا فِرقاً متباينين، وأحزاباً متشتّتين، إلاّ أنّ الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم)(7).

لقد كان وقود الخلاف منذ البداية هو التضليل المتبادل، ولا يكون التضليل إلاّ بناء على اتهام بالعصيان والخروج عن الحق، وترتب على ذلك تمايز المسلمين حسب تكتلات متباينة سميت فرقا من الفُرقة والافتراق، وتعمّق بينها أسلوب التعامل على أساس الولاء والبراء.

ورغم هذا الإطار التأثيمي الأسود الذي أطّر به الأشعري افتراق الأمة فإنّه لم يتجرّأ على إخراج الفرق المختلفة أو بعضها من دائرة الإسلام، فالجميع مع ذلك تجمعهم رابطة الإسلام ويشتمل عليهم اسمه، وهذا الكلام منسجم مع عنوان كتابه: (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين)، فأخطاؤهم أو ذنوبهم واختلافاتهم لم ترفع عنهم غطاء الإسلام ولم تحوّلهم عن قبلتهم الواحدة التي يتجهون إليها في الصلاة.

ثمّ شرع الأشعري إثر ذلك مباشرة في بيان بدايات الخلافات السياسية الأولى التي شتّتت الأمّة إلى أحزاب وامتدّت آثارها إلى عصره الذي كان فيه أحد أبرز المتكلمين، فكانت جميع البدايات التي ذكرها متمحورة حول مسألة الإمامة، فقد ذكر اختلاف السقيفة وبيعة أبي بكر ومرّ سريعاً على أيّام عمر بن الخطاب دون أن يلاحظ اختلافاً يذكر في عهد الشيخين -رضي الله عنهما-، ثمّ بيّن أنّ المشاكل الكبرى بدأت فعلا لمّا (وُلـّي عثمان بن عفان -رضوان الله عليه-، وأنكر قوم عليه في آخر أيّامه أفعالا كانوا فيما نقموا عليه من ذلك مخطئين، وعن سَنَنِ المحجّة خارجين، فصار ما أنكروه عليه اختلافا إلى اليوم)(8)، فالناقمون على عثمان اعتبروه مذنبا في حق الأمّة، لكنّ فريقاً آخر يوافقهم الأشعري خطّأوا هؤلاء الناقمين عليه، ولم يحسم هذا الخلاف، وبقي مستمرّا في الأمة.

ثمّ حصلت بعد ذلك جريمة مقتل عثمان واشتدّ النزاع في تقويم أفعاله وصار ذلك اختلافا بين الناس إلى اليوم كما قال الأشعري(9).

وذكر بيعة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- واختلاف الناس في إمامته ثم قال: (وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم)(10).

وتوقّف أخيرا عند معركة صفّين وحادثة التحكيم وظهور الخوارج، وختم كلامه كعادته بتأكيده أنّ ذلك صار اختلافا إلى اليوم(11).

وهكذا يرى الأشعري أنّ تاريخ الاختلاف اللاحق محكوم بتاريخ الاختلاف السابق، والسبب في ذلك أنّ الاختلافات الأولى التي أوقدت جذوة الفرقة لم تحسم دينيا وإن حسمت قتاليا في بعض المعارك، وسياسيا بمبايعة معاوية. فقد كان هذا الحسم قائما على الغلبة السياسية التي فرضها الواقع بظروفه المعقدة. وما كان السلطان السياسي بقادر على أن يجمّد الخلاف في البعد الديني العميق لأزمة الافتراق.

والمقصود بالبعد الديني هنا هو تقويم أفكار المختلفين وممارساتهم بمقاييس الطاعة والمعصية أو الحسنات والذنوب، وعليه فإنّ الخلافات الأولى وما ترتب عليها من نظريات وإن أخذت بعدا سياسيا ظاهرا فهي دينية بالأساس، ويؤيّد ذلك أنّ علم الكلام حين صار علما نظريا لم يكن الحديث فيه كما لاحظ فان إيس (ينصبّ على محور الانحراف السياسي بقدر ما كان حديثا منحصرا في الإثم والمعصية)(12).

والحاصل أنّ الخلافات السياسية الأولى قبل أن تتطوّر إلى مرحلة التنظير الكلامي مثـّلت مسألة الذنوب فيها بُعداً مركزياً يمكن ملاحظته من غير تكلـّف في مقالات الفِرق الناشئة.

فقد تأسّس موقف الخوارج الذين قاتلوا عليّا على إنكار التحكيم وتأثيم القائمين به إلى حدّ التكفير، وقد أدانوا بذلك الطرفين المتحاكمين، ثمّ تجاوز مذهبهم خصوص هذه الحادثة فصاروا يُدينون الظلم السياسي عامة ويكفّرون الخلفاء وسائر القعدة الذين لم يثوروا على الظلم(13).

واستعظمت طائفة تأثيم المسلمين وتكفيرهم، وقرّروا الانعزال عن مشايعة أي طرف من الأطراف المتنازعة فظهر بذلك مذهب الإرجاء الذي اجتهد أصحابه في التخفيف من المغالاة في تضخيم الذنوب مرجئين الحكم النهائي في ذلك إلى الله تعالى في الآخرة.

أمّا الشيعة فقد كان مذهبهم في البداية عبارة عن ولاء سياسي وعاطفي لعلي -رضي الله عنه- ظهر في صورة التعلق بشخصيته الفذة وفي مناصرته ضد خصومه(14). لكنّ المذهب الشيعي لم يتكون فعليا ولم تصبح الشيعة فرقة متميزة إلاّ بعد جريمة مقتل الحسين -رضي الله عنه- سنة 61هـ/680م وهي الذنب الأكبر الذي استحث أهل البيت وأنصارهم على التكتل في طائفة مخصوصة تطالب بدم الحسين وبحق الأمة من أهل البيت في الخلافة.

ولم يكتف الشيعة الأوائل بتأثيم قتلة الحسين، بل قامت حركتهم الثأرية على التأثيم وعمق الشعور بالذنب، لأنّهم أحسّوا بأنّهم خذلوا الحسين ولم يهبّوا إلى نصرته رغم أنّه جاءهم إلى العراق لتخليصهم من ظلم بني أمية. وقد عرفت هذه الحركة الشيعية الأولى باسم (التوّابين) وكان يتزعّمها سليمان بن صُرَد، ولا سبيل في نظرهم إلى التوبة من ذنب التقاعس عن نصرة الحسين سوى الثأر بقتل قاتليه أو الموت في سبيل ذلك(15).

ثم طوّر الشيعة بعد ذلك كلامهم في الذنوب فأسّسوا نظريتين متقابلتين أولاهما عصمة الأئمة من الذنوب، والأخرى القدح في عدالة الصحابة وتأثيمهم لأنّهم كانوا شاهدين على اغتصاب الإمامة من أهل البيت.

ومع أنّ الجبرية والقدرية الأوائل لم يكونوا يمثـّلون فرقتين بأتم معنى اصطلاح الفرقة فإنّ مقالتيهما في القدر ترتدّان في النهاية إلى موقف ظاهر من الذنوب المرتكبة في الخلافات السياسية أو غيرها، لأنّ القول بالجبر يترتب عليه إلغاء مسؤولية المذنبين عن أعمالهم، أمّا نفي القدر السابق وإثبات استئناف الأمر بغير تقدير قبْلي مؤثـّر فيترتب عليه تحميل الأمويين وسائر مرتكبي المعاصي مسؤولية أعمالهم التي ارتكبوها بإراداتهم الحرّة.

نظريات الذنوب

بعد أن تكوّنت الفرق الإسلامية واتضحت معالم التمايز بينها اتجه الخلاف اتجاها تنظيريا انتهى بتأسيس علم الكلام بوصفه عِلماً نظرياً تهتم فيه كل فرقة بالإبانة عن مقالاتها والاحتجاج لها ودفع شبه الخصوم.

ولمّا كان هاجس تخطئة الخصوم وتبرئة الذات حاضراً في الخلافات الأصلية وفي جلّ المقالات النظرية اللاحقة تضخّم الوعي بمسألة الذنوب التي كان لها دور مركزي في الافتراق حتى وجدت لها مكاناً متميزاً في التنظيرات الكلامية، وصار لها اسمان مخصوصان:

أولهما: (مسألة مرتكب الكبيرة): وهو مصطلح يصرّح بمرتبة الذنب الذي هو موضع إشكال، إنّه الكبيرة التي خصّتها نصوص القرآن والسنّة بوعيد شديد اللهجة، ولا تنفع فيه سوى التوبة.

ثانيهما: (مسألة الأسماء والأحكام): وهو مصطلح مركّب يغلب عليه التعميم النظري، ويقصد به الاختلاف في الأسماء التي تطلق على مرتكب الكبيرة، هل هو مؤمن أو فاسق، أو عاص لا تخرجه معصيته من مسمّى الإيمان؟ أمّا الأحكام فالمراد بها ما يحكم به في الدنيا والآخرة على مرتكب الكبيرة بعد تسميته باسم من تلك الأسماء المختلف فيها. وأحكام الدنيا تتعلق بالولاء والبراء، والمقاتلة، والنكاح، والتوارث ونحو ذلك، أي هل يعامل معاملة المسلمين بوصفه عضوا معترفا به في أمة المؤمنين؟ أمّا أحكام الآخرة فتتعلق بالمصير إلى الجنّة ودرجاتها، أو إلى النار ودركاتها، مع الكلام على مدة البقاء فيها لمن دخلها مرتكبا للكبائر من غير توبة، هل هي مؤقتة أو ممتدة في خلود لا نهائي؟

وقد تشعّب الكلام على هذه المسألة فصار يشمل عدّة قضايا كمفهوم الإيمان، والفرق بين الكبيرة والصغيرة، والتوبة، والثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والاستحقاق، وإحباط الأعمال وغير ذلك من الأحكام المعيارية التي تدور حول محور الطاعة والمعصية وتهدف إلى تقويم معتقدات الناس وأعمالهم.

وليس من غرضنا تفصيل مختلف النظريات بأدلتها، فهي مبسوطة في كتب علم الكلام، وإنّما تكفينا في هذا السياق الإشارة السريعة إلى أشهرها.

فالمشهور عن الخوارج أنّ العمل ركن من الإيمان وشرط في صحته، لذلك كان الذي أذنب بارتكاب كبيرة عندهم كافراً؛ لأنّه أخلّ بشرط من شروط صحة الإيمان، وبعد ثبوت اسم الكفر في حقه فإنّه لا تجري عليه في الدنيا أحكام المؤمنين من نكاح وإرث، ونصيب في الغنيمة والفيء، وصلاة جنازة ودفن في مقابر المسلمين، أمّا حكمه الأخروي فهو الخلود في النار. وهم بهذه النظرية الصارمة يعتبرون من الوعيدية.

أمّا الإباضية فقد كانوا أقلّ حدّة من الخوارج، لأنّهم وإن وافقوهم في تسمية صاحب الكبيرة كافرا فقد خالفوهم في مفهوم الكفر، إذ الكفر عندهم كفران: كفر ملـّة أو شرك، وكفر نعمة غير شرك، لذلك ردّوا على الخوارج قولهم في التشريك ورأوا أنّ المخطئ من أهل التأويل كافر كفرا غير شرك ما لم يكن رادّا للمنصوص(16).

وليس العمل عند المرجئة ركنا في الإيمان، بل له رتبة متأخرة عنه، لذلك قيل إنّهم سمّوا مرجئة لأنّ من معاني الإرجاء التأخير، فهم يرون تأخير العمل عن النيّة والعقد، ويقولون لا تضرّ مع الإيمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة. والإيمان عندهم هو محض المعرفة بالله تعالى، فمن عرف الله وأحبّه بقلبه فهو مؤمن لا يضرّه ترك الطاعات، ولا يعذّب على ذلك في الآخرة، بل يدخل الجنّة بإيمانه لا بعمله(17).

وتكلـّف المعتزلة البحث لمرتكب الكبيرة عن اسم بين الاسمين وحكم بين الحكمين، فقالوا إنّه ليس كافرا ولا مؤمنا بل هو فاسق، والفاسق لا يحكم عليه بحكم الكافر ولا بحكم المؤمن، وإنّما يُفرد له حكم ثالث هو الذي اعتبروه منزلة بين المنزلتين، ومعنى ذلك عندهم أنّ الثواب ثوابان، ثواب عظيم وثواب دونه، والعقاب عقابان، عقاب عظيم وعقاب دونه. والفاسق لا يستحق ثوابا كالمؤمن، ولا عقابا عظيما كالكافر والمنافق والمرتد، بل يستحق عقابا أخرويا في جهنّم دون العقاب العظيم وتلك هي منزلته الوسطى بين المنزلتين(18). وهم بهذا المعنى يعتبرون من الوعيدية، لأنّهم وإن خالفوا الخوارج في التسمية فقد وافقوهم في الحكم، وهو الخلود في النار، ولسنا نرى في ذلك منزلة وسطى بين المنزلتين، لأنّ جهنّم -بعذابها العظيم والذي دونه- كلها منزلة واحدة في العذاب تقابل منزلة الجنة بدرجات نعيمها.

أمّا أهل السنة فالعمل ليس ركنا في الإيمان عندهم ولا شرط صحّة، بل هو شرط كمال ومتمّم من متمّماته، إذ الإيمان محمول على أصله اللغوي الذي هو التصديق. وبناء على ذلك فإنّ مرتكب الكبيرة فاسق بذنبه لكنّه مؤمن مع ذلك. والفاسق مخاطب بالأحكام الشرعية من صلاة وزكاة ونحوهما كما يخاطب الأتقياء، ويجري مجرى المؤمن في أحكام الدنيا فيُسْهم له في المغنم، ويصرف إليه سهم المصالح، ويذبّ عنه، ويصلـّى عليه ويدفن في مقابر المسلمين(19).

أمّا الحكم عليه في الآخرة بالعقاب فلم يجزموا به، بل فوّضوه إلى مشيئة الله تعالى، وجوّزوا استحقاق المؤمن العاصي العقاب في الأخرى، كما جوّزوا مغفرة زلاّته(20) لكنّه إذا عُوقب لا يخلـّد في النار(21).

والحاصل أنّهم جمعوا في حق صاحب الذنب الكبير بين صفتين هما الإيمان والفسق، ولم يروا في ذلك أيّ تناقض، لأنّهما لا يتعلقان به من جهة واحدة، والإيمان والفسق جنسان مختلفان يمكن اجتماعهما من غير تدافع، إذ الأوّل موضوعه التصديق، والثاني موضوعه العمل.

ورغم ما في هذه النظريات المختلفة من إشكاليات استدلالية يطول تفصيلها ويصعب حلـّها فإنّ الإشكال الأكبر إنّما يظهر عند التشخيص العملي، أي عند تعيين المذنبين وتسمية أشخاصهم والحكم عليهم وعلى أتباعهم. وهو تشخيص يبدأ أساسا برجال الماضي الذين بدأ معهم الخلاف ويمتدّ إلى حاضر المتكلمين باسم الفرق الباقية.

فقد خاضت الفرق قديما ومازال أتباعها يخوضون إلى اليوم في تقويم الأجيال الأولى من الصحابة وتابعيهم وسائر المشاركين في أحداث الافتراق الأوّل، وقد اختلفت أحكامهم اختلافا كبيرا يتراوح بين العصمة الخالصة والتكفير الخالص وبين هذين الحكمين أحكام أخرى كالتعديل، والتفسيق، والتبديع أو البحث عن الأعذار، أو تكلـّف التهم ونحو ذلك ممّا زخرت به كتب الخلاف الأكبر.

وبذلك صار لكل فرقة تاريخها المثالي الخاص وسلفها الصالح الذي تذبّ عنه، وأصبح اختلاف المذاهب في الحاضر مثقلا بالنزاعات التاريخية المستصحبة، وعندما يتطاير شرر النزاع ويصل إلى مستويات قصوى ترى كلَّ فريق يريد أن يأخذ الآخر بجريرة أسلافه الذين ينتمي إليهم نظريا وتاريخيا.

من التذنيب إلى التخصيب

ظهر لنا ممّا تقدّم أنّ الذي أجّج نيران الفتنة الأولى واستدام حضورها قروناً ليس هو الخلاف ذاته ولا الأفعال المختلفة أو الممارسات السياسية ذاتها، وإنّما هي الأحكام المعيارية التي تقطر تذنيباً أو تكفيراً، فقد طغى التنظير للذنوب على التنظير للتوبة، وغلب التشدّد على التسامح، وقام منطق الاتهام المتبادل مقام منطق حسن الظنّ بالمؤمنين.

والسؤال المطروح هو إلى متى سيستمرّ الافتراق القديم متحكّما في الافتراق الحديث؟ وهل يمكن التوبة من تاريخ التأثيم بإنتاج تاريخ جديد متحرّر من الولاء للفرقة الواحدة ومتقيّد بالولاء للأمّة الواحدة؟

إنّ عسر هذا المقصد ومثاليته لا يلغيان وجوبه على الأمّة، لأنّ الوحدة مطلب صريح بغير خلاف، والفتنة مأزق قبيح بغير خلاف أيضا. وإذا كان تحقيق هذا الواجب عسيرا فقد شرع الإسلام مبدأ التيسير بقدر الحاجة والضرورة، وأسّس قاعدة الترخّص، وفتح إمكان التدرّج في تحقيق المطالب العليا.

وإذا كان إلغاء الخلاف ليس مطلبا واقعيا، فإنّ تجريمه ليس حتميا، والمطلوب هو إتقان فنّ إدارة الاختلاف.

والذي يهمّنا من ذلك بالنسبة إلى موضوعنا هو العمل على التخلص من منطق التذنيب بحثا عن منهج في إدارة الخلاف يفضي إلى التخصيب، أي تخصيب الفكر وإثراء الواقع.

لكنّ جوهر الإشكال أو موطن العسر يكمن في أنّ التخلـّي عن تأثيم المخطئين يخالف ظواهر النصوص التي حضرت فيها الأحكام المعيارية بكثافة لا تنكر، فكيف نجوّز لأنفسنا رفض المنهج القرآني الذي يشدّد النكير على المذنبين والخاطئين في الفكر والسلوك ويحث على الطاعة والإصلاح؟

وبقطع النظر عمّا يمكن أن يقال في نسبية الفهم البشري لمعايير التخطئة والتصويب في القرآن، فإنّ أكثر إشكاليات الافتراق الأوّل والتنازع المستمرّ سببها الإفراط في تزكية النفس وادّعاء امتلاك مفاتيح النجاة، مع الحرص على تشخيص المخطئين من المخالفين وتعيينهم فيما يشبه التحقيق القضائي.

وهذان الأمران مخالفان للمنهج القرآني بوصفه كتابا قيّما ومقوّما، فطريقته في التعميم وترك التعيين ظاهرة لا في القصص الماضية والأمثال فحسب، بل في الكلام على الأخطاء الحادثة في واقع النزول أيضا. صحيح أنّه كان يذكر الجماعات المخالفة من الكفار واليهود والمنافقين، لكنّ المفاصلة الدينية مع هؤلاء كانت صريحة، وهو مع ذلك لم يكن يسمّ أشخاصهم، بل كان تارة يعمّم وأخرى يستعمل أسلوب التبعيض. أمّا بالنسبة إلى المسلمين فلا يوجد في القرآن موقع تقويمي بالتصويب والتخطئة أو بالمدح والذمّ يذكر فيه شخص بعينه، وإنّما تعرف بعض الأسماء عن طريق روايات أسباب النزول.

فالذي يهمّ القرآن هو بيان قيم الخير والتحذير من الأخطاء الآثمة بقطع النظر عن الأشخاص. وإذا كان الله تعالى الذي هو أعلم بخلقه من خلقه ومحيط بالسرّ وأخفى لم يعيّن الناجين الأتقياء ولا المذنبين الأشقياء فأنّى لغيره من البشر أن يجزم بذلك إلاّ على سبيل الظاهر أو الظنّ والرجم بالغيب!

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: ﴿إنَّ رَبَّكَ هُوَ أعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهْوَ أعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾(النحل: 125) والآية واضحة في أنّ تمييز أعيان الضالين عن أعيان المهتدين لا يعلمه حق العلم إلا الله تعالى، وهو لم يذكر أسماءهم، وإنّما ميّز لنا بين الضلال والهدى، أمّا الضالون والمهديون فلم يبيّنهم. وتأكيده تعالى على أعلميّته بذلك يفهم منه النهي عن ممارسة فعل التزكية والتضليل.

ومن ذلك قوله تعالى:﴿فَلاَ تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ هُوَ أعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾(النجم: 32) وهو صريح في النهي عن تزكية الذات وتفويض علم ذلك إلى الله وحده.

ولا يجوز للمسلم أن يمنّ على الآخرين بالصلاح مهما كان مستكثرا من الخير، ولا ادّعاء النجاة والتقوى مهما كان ظاهره منبئا بذلك، بل ينبغي عليه فردا وجماعة أن يعامل نفسه بالاتهام وأن يحاسبها باستمرار على التقصير في حق الله تعالى وحق الآخرين. لهذا أقسم الله في سورة القيامة بالنفس اللوّامة تأسيسا لمنهج النقد الذاتي، إذ الإحساس بالكمال وهم ينتج سلوك الافتخار ويعطّل الاجتهاد في طلب المزيد، ويسكت ألسنة الآخرين عن النقد والمحاورة.

وأكثر ما يُخشى من شيوع منطق التزكية المذهبية المرسِّخة للافتراق الوقوعُ في دائرة حُسبان الإحسان مع ضلال السعي كما قال تعالى: ﴿الّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَحْسِبُونَ أنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾(الكهف: 104). فإذا ادّعت كل فرقة أنّها تمتلك الحقائق المطلقة وأوصدت أبوابها على ما تراه يقينا وظنّت أنّها تُحسن صنعا بتأثيم سلف دون سلف وتذنيب خلف دون خلف، فإنّ واجب الولاء العام للأمّة يتعطّل وكفى بذلك ذنبا مناقضا لإحسان الصنع.

والحاصل أنّ الاختلاف مطلوب للتنوّع وتوسيع آفاق الاختيار في ظلّ ثوابت الأمة ووحدة الانتماء إلى الإسلام، وممّا يساعد على ذلك معاملة الذات بالنقد والمحاسبة، ومعاملة الآخرين بحسن الظنّ والتماس المعاذير بدلا من التجريح والتذنيب.

أمّا الذين افترقوا أوّل مرّة فلسنا مسؤولين في حاضرنا عمّا وقعوا فيه وإنّما نسأل عندما نقع فيهم بالاتهام ونقذفهم بالكبائر. وهذا هو كسبنا الذي نسأل عنه، فكأنّنا فرغنا من حلّ إشكاليات الحاضر ولم يبق لنا إلاّ تصفية الحساب مع تاريخ نستصحبه بالأحكام المعيارية، فإذا بنا نعيد إنتاج الافتراق القديم بدلا من البحث عن وفاق حديث. وقد قال تعالى بكلّ وضوح: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْألُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(البقرة:134).

فهل يمكن التوبة من النزاع حول تعديل التاريخ وتجريحه والاستغفار عن ذلك بالنظر إليه نظرة تاريخية تربطه بظروفه الخاصة وسياقاته التي أنتجته؟

وهل يمكن التكفير عن تذنيبنا المتبادل بتفعيل عوامل النقد الذاتي وبالتخلـّي عن النزاع الكئيب تأسيسا لحوار خصيب؟

ذلك سؤال نطرحه على كل من يهمّه أمر الولاء للأمّة.

*********************

الحواشي

*) باحث وأكاديمي من تونس.

1- الملل والنحل: 1/7 (دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط 2/1992م).

2- م.ن: 1/7-8.

3- م.ن: 1/9.

4- م.ن: 1/6.

5- م.ن: 1/10.

6- م.ن: 1/11.

7- مقالات الإسلاميين: ص1-2 (تصحيح هلموت ريتر - فرانز شتايز بفسبادن - ألمانيا، ط 3/1980م).

8- م.ن: ص3.

9- م.ن: ص3.

10- م.ن: ص3.

11- م.ن: ص5.

12- بدايات الفكر الإسلامي: ص100 (ترجمة عبد المجيد الصغير - منشورات الفنك - الدار البيضاء – المغرب، 2000م).

13- محمد بو هلال: إسلام المتكلمين، ص42-43 (دار الطليعة – بيروت، ط 2/2006م).

14- م.ن: ص65.

15- رضوان السيد: مفاهيم الجماعات في الإسلام، ص56-57 (دار المنتخب – بيروت – لبنان، ط 1/1993م).

16- أبو عمار عبد الكافي الإباضي: الموجز، 2/202-203 (تحقيق عبد الرحمن عميرة – دار الجيل – بيروت، ط1/1990م).

17- الآمدي: أبكار الأفكار في أصول الدين، 3/383-384 (دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، ط1/2002م).

18- القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة، ص697-698 (تحقيق عبد الكريم عثمان – مكتبة وهبة – القاهرة، ط1/1965م).

19- الجويني، إمام الحرمين: الإرشاد إلى قواطع الأدلة وأصول الاعتقاد، ص397 (مكتبة الخانجي – مصر/1950م).

20- الآمدي: أبكار الأفكار، 3/279.

21- م.ن: 3/299.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق