بين صوم مريم وصمت زكرياء

إنّ الصوم عبادة عريقة في القدم كتبه الله على أمم قبل أمة الإسلام مع اختلاف في الطرق والأشكال وفي الفترات الزمنية. ورغم اختلاف أنواع الصوم فهي تشترك جميعها في معنى مركزي هو الإمساك، أي حبس النفس عن ممارسة شيء معتاد يميل إليه الطبع، لذلك كان يحتاج إلى طاقة فائقة من الإرادة تقدر على كبح جماح النفس التي يشقّ عليها مفارقة ما تهواه ولو إلى حين.

ومن أنواع الصوم القديمة التي لم يكتبها الله على المسلمين الصوم عن الكلام. وإياك أن تظنّ أنه أيسر من الصوم عن الطعام والشراب، وإذا أردت المقارنة فجرّب أن لا تكلّم الناس يوما أو يومين، بشرط أن لا تنزوي في بيتك نائما أو قارئا أو تشاهد البرامج التلفزية. جرّب إن شئت أن تصوم عن الكلام وأنت تخالط الناس في السوق، أوفي العمل، أو في المقهى والأصدقاء يثرثرون ويتضاحكون، ستجد أنّ اللسان يغالبك على النطق في كل لحظة لأنه عضو سريع الحركة يصعب عليه طول السكون، خاصة إذا لاحظت في كلام جليسك عوجا تريد تقويمه، أو إشكالا تريد السؤال عنه. إنّ موسى عليه السلام لم يستطيع صبرا عن بعض ما فعله العبد الصالح من خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار بغير أجر، فنطق سائلا ناقدا، وتوقفت التجربة في السؤال الثالث، فكيف بنا نحن ودواعي النطق من حولنا أكثر من أن تحصى !

إنّ الله تعالى فرض علينا في رمضان وغيره صوما جزئيا عن نوع من الكلام هو الكلام الذي يحمل إثما وقلة أدب، ولكنّ أغلب الألسنة عاجزة عن ذلك، فالغيبة، والهمز، واللمز، والخصام وغيرها من آفات اللسان رائجة في سوق الخطاب اليومي قلّ من يسلم منها. هذا صوم جزئي عن نوع من الكلام غالبا ما نفشل فيه إلا من رحم ربّك، فما بالك بالصوم الكلي عن جميع الكلام !

وقد قصّ علينا القرآن قصة مريم العذراء التي أمرها ربّها أن تصوم عن الكلام يوما، فهي بعد أن نفخ الله فيها من روحه، وجعلها تلد عيسى المعجزة من غير أن يمسسها بشر خشيت أن تواجه الناس بما لا عهد لهم به، وخافت على نفسها التهمة، وهي العذراء الصالحة التي اتخذت من دون قومها حجابا تختلي فيه للتبتّل ويأتيها رزقها من عند ربّها بخير اكتساب. فطمأنها ربّها وقال لها على لسان وليدها المعجزة الذي ناداها من تحتها ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ (سورة مريم: الآية 26) ولما قرّرت الصوم عن الكلام، كان لابدّ لها مع ذلك أن تعبّر عن بعض ما ينبغي بيانه فاستبدلت النطق بالإشارة، ولمّا كلّمها قومها متعجبين من أمرها أشارت إلى وليدها الذي في المهد كما قال تعالى ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ﴾ (سورة مريم: الآية 29). وبما أنه لابدّ من الكلام في هذا الموقف الحرج وهي صائمة عنه فقد نابها الولد المعجزة في ذلك، وأنطقه الله أمام دهشة القوم بما نزّه ربّه عن الولد، وبرّأ أمّه من تهمة البغي وأثبت لنفسه النبوة والبركة أينما حلّ ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ﴾ (سورة مريم: الآية 30) إلى آخر ما قال عليه السلام.

أمّا صمت زكرياء عليه السلام فلم يكن صوما إراديا عن الكلام كما فعلت مريم البتول، بل كان معجزة ربّانية من نوع آخر، وذلك أنّه لما بشره ربّه بيحيى مولودا معجزا رغم أنّ امرأته عاقر وهو عجوز سأله أن يجعل له آية ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ﴾ (سورة مريم: الآية 10) فالولد معجزة أحدثها الله في امرأته العاقر. لكنّه أراد أن يتكرّم ربّه عليه بمعجزة يحدثها فيه تكون علامة له على استقرار الولد في الرحم، فقال له ربه ﴿ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ﴾ (سورة مريم: الآية 10) فقوله تعالى "لا تكلّم" ليس نهيا له عن الكلام بل هو نفي لقدرته عليه. لذلك قال له "سويّا" أي إنّ آيتك أو معجزتك أنك ستجد نفسك عاجزا عن الكلام رغم أنّ حالتك سوية ليس بك خرس ولا عيب من عيوب النطق. فقد أعجز الله قدرته على النطق عن ممارسة اقتدارها. وهذا عكس معجزة عيسى الذي في المهد إذ أنطقه الله حالة عجزه عن النطق. فمعجزة زكرياء فيها سلب للنطق رغم ثبوت القدرة عليه، بينما معجزة عيسى فيها إحداث للنطق رغم ثبوت العجز عنه.

وبما أنه لا بدّ لزكرياء من التعبير عن بعض ما يريد عند مخاطبة الناس فقد أباح الله له ذلك عن طريق الرمز والإشارة فقال له ﴿ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ﴾ (سورة آل عمران: الآية 41) لذلك عندما خرج على قومه من محراب الدعاء والمناجاة ووجد نفسه عاجزا عن الكلام أشار إليهم أن يسبّحوا ربّهم، وقد سمّى الله هذه الإشارة وحيا كما قال ﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ (سورة مريم: الآية 11).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق