في رمضان تتنزّل البركة بمعناها المادي (الذي يعني الزيادة) على المسلسلات فتزدحم القنوات بها ازدحاما منقطع النظير حتّى أن المشاهد يحتار أيّها يتابع، وفي النهاية يختار كل مشاهد الكمية التي يسلسل نفسه أمامها مستسلما لأحداثها منفصما عن الواقع الذي يعيش فيه ولو كان ما فيها مناقضا لروحانية شهر رمضان، وأعرف من يقتطع جزءا من صلاة التراويح حتى لا يفوته ما ربط به نفسه، أمّا الذين يهجرون محاريب الصلاة في رمضان ويقومون ليلهم في خشوع العابدين أمام الأحداث الدرامية فإنّ إيقاع نومهم وقيامهم بل تعطّل الحوار داخل أسرهم يمكن أن يكون دراما تحتاج إلى الكتابة و الإخراج.
والمسلسلات في رمضان نوعان: بعضها ديني، وبعضها غير ديني أو لنقل مدنيّ. ومقصدنا من الكلام هنا هو المسلسلات الدينية، والملاحظة العامة التي نقدمها في البداية، هي أنّ أغلب هذه المسلسلات تاريخية، وهذا يعطي انطباعا نراه سلبيّا وهو أن الدين شأن من شؤون التاريخ، وماض روحاني نحنّ إليه لا علاقة له بواقع الحياة في عصرنا. فالمتديّنون هم الذين يلبسون العباءات ويمتشقون السيوف، ويتكلّمون باللغة العربية الفصحى – رغم الأخطاء اللغوية الكثيرة – أما المسلسلات المدنية فملابس أبطالها عصرية ومظاهر حياتهم فاخرة ولغتهم عامية قد تتخلّلها ألفاظ عربية، وهم عموما يتكلّمون بلغة أهل البلد الذي أنتج فيه المسلسل، فلماذا لا نرى إنتاجا دراميّا يثمّن القيم الدينية السمحة في ثوب واقعي غير تاريخي ؟
ثم إنّ المسلسلات الدينية التاريخية قد مرّت بعدّة تجارب حتى صار لها تاريخ، وصار لها أبطال تحوّلوا إلى نجوم. ومثل هذا الإنتاج يحتاج إلى معارف تاريخية دقيقة، ويخضع لنوع من الرقابة اللغوية، ولا بدّ كذلك أن يراعي ثوابت الدين ومقاصده، لأنّه يتعامل مع قيم ذات حساسيّة عليا في المجتمع. ويصعب أن تتجرّد هذه المسلسلات من البعد الذاتي، لأنّها في عمومها تقدّم قراءات خاصة للدين والتاريخ، وهذا غير محظور بشرط مراعاة الثوابت واحترام مشاعر الأمة ومقدّساتها.
والذي عرفناه عبر تاريخ هذا النوع من الإنتاج أنّ أصحابه كانوا يتجنّبون عدّة أشياء منها أن يتقمّص الممثّلون شخصيات الأنبياء صورة وصوتا، فرغم أنّ النبيّ بشر يخالط الناس ويمشي في الأسواق فإنّ له حرمته التي يتهيّب المؤمن من ملامستها وتشخيصها. لكنّ الأمر في هذه السنوات الأخيرة قد انقلب على عقبيه إذ طلعت علينا مسلسلات اقتحمت حرم النبوّة وقدّمت لنا أشخاصا الله أعلم بشخصيّاتهم يستعيرون شخصيات الأنبياء ويجسّدونها أمام المشاهدين، فبعد أن كان الناس يسمعون بالمسيح وزكرياء ويعقوب ويوسف عليهم السلام صاروا يرونهم رأي العين.
ولسنا نريد أن نناقش المسألة من جانب الحلال والحرام، فتلك نازلة حادثة في الفقه حرّمها جمهور علماء العصر، ويبدو أنّ منتجي هذه الأعمال وجدوا من أفتى لهم بالحلّ أو أنّهم لم يستفتوا أحدا، وإنّما نودّ التركيز على موضوع المهابة والخيال.
إنّ تشخيص النبيّ يعكس في نظري جرأة على اختراق مقام النبوّة العالي، وخفضا للمهابة التي يكنّها المؤمنون للأنبياء. وقد روي عن بعض الصحابة أنهم لم يتمكّنوا من التحديق المليّ في وجه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعينيه لمهابته الغامرة، فأين هي المهابة ونحن نشاهد الأنبياء بكافّة التفاصيل التي يركّز عليها المخرج وفي وضعيات لا يخلو بعضها من الابتذال، عجبا، هل هذا يوسف الصّديق الذي أوتي شطر الحسن ولم يملك النسوة حين رأينه إلاّ أن يقطّعن أيديهنّ ؟
وإذا كان تجسيد أيّ بطل تاريخيّ يتضمّن اعتداء على خيال من قرأ عنه وسمع به، فما بالك بتجسيد نبيّ مرسل؟ إنّ القرآن الكريم حين يقصّ القصص كان يميل إلى التجريد، وفي كثير من الأحيان لا يذكر الأسماء ولا يعيّن الأماكن ويعرض عن تدقيق كثير من التفاصيل ليترك للقارئ مساحات شاسعة من الخيال يملأ بها المسكوت عنه بحريّة تناسب تصوّره الجميل لمقام النبوّة ومكانة الصّالحين. أما حين تحكى التفاصيل ويشاهد النبيّ جسدا متحرّكا فإنّ الخيال يسجن في تلك الصّورة، وأجنحته المحلّقة تكبّل، وحرّيته السابحة تعتقل، وبذلك يصير القرآن رهينة لتلك الصورة التي شهدها، تقفز إلى ذهنه كلما قرأ آية عن ذلك النبيّ الكريم.
هذا إذا كانت الوقائع موثوقا بها تاريخيّا، أما إذا خالطتها الخرافة، واقتحمتها الإيديولجيا، وخالفت ثوابت الإسلام، وكسّرت منطق العقل فلا تسل عن حجم التشويه الذي يربك الأذهان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق