الدروس و المحاضرات الصوتية

  -  خطبة عيد الأضحى سنة 2011 save4[1][2] Mc7[2]
_ الإنسلاخ save1[1][2]Mc[2]
_ يوسف عليه السلام    save2[1][2]Mc1[1][2]
_ الفتن  save1[3] Mc1[3]  
_ العلمانية save2[3]Mc2[2]
_ في رحاب سورة النّجم ج1  save3[2]Mc3[2]
_ في رحاب سورة النّجم ج2  save4[3]Mc4[2]
_ حبّ الرّسول صلّى الله عليه وسلم  save[1][2]Mc[1][3]
_ كنتم خير أمة أخرجت للناس save[1][2]Mc[1][3]
_ الفقه والتشريع  save[1][2]Mc[1][3]
-  المولد النبوي الشريف save4[1][2] Mc7[2]
  _ الحج و التأسيس  save4[1][2] Mc7[2]
_ أصحاب الفيل الجزء الأوّل save4[1][2] Mc7[2]
_ أصحاب الفيل الجزء الثّاني save4[1][2] Mc7[2]
_ التوحيد  save4[1][2] Mc7[2]

_ لقوم يعقلون save4[1][2] Mc7[2]

_ قواعد إبراهيم

save4[1][2]Mc7[2]
_ الإبداع والتدبير save4[1][2]Mc7[2]

_ الإختيار

save4[1][2]Mc7[2]
   

دراسات ومقالات

السلطة في الدين:الولاء والبراء والمرجعية والكهنوت

تحميل الدراسة

منذ أن تديّن الإنسان - بقطع النظر عن الخلاف في منشإ التدين – وهو يعيش إشكالية العلاقة بين سلطة الدين وإنسانية الرأي عن وعي أو عن غير وعي. ولسنا نقصد بالسلطة خصوص السلطة السياسية بما هي ولاية على الناس. وإنما نقصد مطلق السلطة بوصفها إلزاما فوقيا يؤسس أنماطا من العلاقات اللامتكافئة بين التابع والمتبوع سواء أكان المتبوع مخزونا رمزيا، أم مرجعا بشريا. وتتخذ هذه العلاقات بعدين أساسيين : أحدهما تنازلي من السلطة المرجع إلى التابع، وثانيهما تصاعدي من التابع الملتزم إلى السلطة الفوقية. وإذا كان للسلطة خطابها الخاص الذي ترتب به استراتيجيات الخضوع والتسليم، فإنّ الأتباع لهم خطابهم الخاص الذي يسترضون به السلطة ويعبرون به عن الولاء.

وإذا أردنا الخروج من مستوى التعميم، فمن المهمّ أن نؤكّد ابتداء أننا نقصد خصوص السلطة الدينية. لأنّ السلطة لها تجليات متعددة منها الدين الذي لا يكون إلا سلطة بما له من أبعاد رمزية ومظاهر إلزامية على مستوى المعتقدات والطقوس، ومختلف الممارسات الفردية والاجتماعية.

لكنّ الدين بما هو قوة عليا مفارقة في نظر الأتباع، أو بما هو نصوص مقدسة مصدرها المطلق في ا لديانات الكتابية لا يفهمه المتدينون إلا في حدود نسبيتهم، وفي سياق ظروفهم التاريخية. بل وفي ضوء مصالحهم السلطوية فيما بينهم. ومن هنا تنشأ إشكالية الخطاب الديني الذي يؤسسه الأتباع، لأنه يتحوّل بذاته إلى سلطة تستعير مواصفات السلطة الدينية ذاتها وتلبس لبوسها. وتتضخّم المشكلة حين يدخل الأتباع في دوامة الصراع على احتكار سلطة الخطاب الديني، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وهنا، كثيرا ما تستنفر السلط الأخرى غير الدينية قصد توظيفها في فرض هيمنة الخطاب الواحد كأن يقع اللجوء إلى سلطة الدولة، أو المال، أو الطبقة المهيمنة، أو التقاليد الاجتماعية السائدة، وغير ذلك من الوسائل التي يراد بها جميعا أو ببعضها ترجيح سلطة خطاب على آخر.

الـكـهـنـوت :

يعتبر الكهنوت خارج الديانة الإسلامية من أبرز مظاهر السلطة في كثير من الديانات. وكلمة "كاهن" من أصل سامي، فهي في العبرية "كوهين"، وفي العربية من كهن تكهّنا وكهانة أي تنبأ بالغيب وادعى معرفة الأسرار(1) وفرّق الراغب الأصفهاني بين الكاهن والعراف من جهة أنّ الأوّل يخبر بالأخبار الماضية، بينما يخبر الثاني بالأخبار المستقبلة(2).

ومهما يكن فالكهانة على العموم ذات سلطة مرجعية عليا في الدين تتربّع على عرش الأسرار، وتحتكر الكلام باسم الغيب. وقد كانت سلطة الكهنوت تتضخم أحيانا حتى تصير الكهانة مؤسسة دينية تنافس سلطة الملوك خاصة حين تتوفر المعابد الضخمة وتغدق عليها الهدايا والعطايا الثمينة التي تنمي ثرواتها وتمنحها قوة اقتصادية فاعلة، كما حصل بالنسبة إلى الكهنوت المصري في عصر النضال ضدّ الهيكسوس (من 1700 إلى 1570 ق.م تقريبا) حيث ضعفت سلطة الملوك الشخصية، وصاروا يسترضون الكهنوت بالعطايا الضخمة، وقد وجد أمنيحوتب الرابع (1419 – 1402 ق.م) الذي تسمى باسم أخناتون صعوبات كبيرة في التحرر من وصاية الكهنوت، بإقامة كهنوت مضادّ جعل نفسه فيه الكاهن الأعلى للإله آتون : قرص الشمس(3).

وحيث لم تكن توجد معابد في المجتمعات الرعوية غير المستقرة كان رؤساء العائلات أو القبائل أحيانا يقومون بوظيفة الكاهن في عائلاتهم حتى أنه وجد ما يمكن أن نطلق عليه اسم الكهنوت العائلي(4).

وقد كان للكهنوت حضور متميز في المجتمع الإسرائيلي، حيث ارتبط في البدايات بسبط اللاوين بناء على أنّ لاوي هو الذي اختاره الله لخدمته ومنحه موسى بركته (التثنية : 33 : 8 – 11). وكان للكهنة عدة وظائف، منها : صياغة عهد الرب "يهوه" وتبليغ وصاياه، وتعليم الشعب أحكام الشريعة، والإشراف على الطقوس الدينية في المواسم، وتقديم القرابين بوضع البخور والمحرقات على المذبح. وقد بقيت الكهانة تتطور عند اليهود حتى تحوّلت إلى مؤسسة دينية قارة تسمى "السنهدرين" يرأسها الكاهن الأكبر، وتضم سبعين عضوا، لها وظائف قضائية إلى جانب الوظائف الدينية(5).

وفي العهد الجديد يوجد نوعان من الكهانة : الكهانة التقليدية التي اختص بها اللاويون، و"الكهانة العليا" وهي نوع جديد من الكهانة صاغه بولس، وربطه بالنبوّة، إذ حصر الكهانة في المسيح عليه السلام، واعتبره الكاهن الأعلى بناء على قول الرب(6) فإذا كانت الكهانة القديمة تقوم بتقديم الذبائح من التيوس والعجول، فإن الكاهن الأعلى في نظره قد سفك دم نفسه فصار هو ذاته قربانا يؤدي مهمته الحقيقية في خيمة السماء التي لم تصنعها يد بشر (7)

أما الكهانة في المجتمع العربي قبل الإسلام فلم تكن تمثل مؤسسة متكاملة، بل اشتهر كهان أفراد في بعض القبائل، كانوا يخبرون بأنباء الغيب، ويؤوّلون الرؤى، ويحتكم الناس إليهم باختيارهم في بعض الخصومات. واحتكام عبد المطلب وقريش إلى كاهنة بني سعد في بئر زمزم أمر معروف. قال ابن خلدون "كان العرب يفزعون إلى الكهّان في تعرّف الحوادث، ويتنافرون إليهم في الخصومات ليعرّفوهم بالحق فيها من إدراك غيبهم"(8).

والحاصل أنّ الكهنوت يعتبر سلطة عليا ومرجعا له نوع من الصلة بالغيب المخزون في خفايا السماء، ودوره يختلف من مجتمع إلى آخر، ومن دين إلى آخر، وأحيانا ما يقع المزج بينه وبين النبوة.

وحين جاء الإسلام حرص على إبطال سلطة الكهانة وميّز بينها وبين النبوّة، ونفى عن الرسول محمّد صلى الله عليه وسلـّم صفة الكهانة التي يلحقها به البعض قياسا على ما يعرفونه من وظيفة الكاهن، قد وردت كلمة الكاهن في القرآن مرّتين في سياق دفع شبهة الكهانة عن الرسول قال تعالى (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ ) ]الطور:29[ وقال تعالى : ( وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) ]الحاقة : 42[ وبذلك تأسست سلطة الوحي المنزّل من الله تعالى على النبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلـّم الذي ألغى سلطة الكهانة، وأنهى مراحل الحضور النبوي المباشر ليعلن حسب محمد إقبال عن مولد "العقل الاستدلالي" الذي ينظر في الكون ويجتهد في فهم النصوص دون أن يكون له الحق في ادعاء التواصل مع الغيب، أو احتكار الحق المطلق. فإبطال الإسلام للرهبنة والكهانة، ودعوة القرآن إلى إعمال العقل، والنظر في الكون، والسير في الأرض لمعرفة سنن الله في الأولين، كل ذلك حسب إقبال له علاقة وثيقة بختم النبوّة، فالنبوّة في الإسلام حسب قوله "تبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوّة نفسها. وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على مقود يقاد منه، وأنّ الإنسان لكي يحصّل كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو"(9).وليس معنى ذلك أن يستغني عن مرجعية الوحي الذي بلّغه النبي وبيّنه، بل المقصود أن يستغني عن سلطة دينية معصومة تنطق على لسان الوحي بما تراه حقا مطلقا وما سواه فباطل.

لقد كان الصحابة يجتهدون في عصر الرسول صلى الله عليه وسلـّم خاصة في أسفارهم، وكانوا يقولون أقوالا، وتصدر عنهم أفعال ومبادرات، لكنّ ذلك كله كان تحت غطاء عصمة النبي، والوحي الذي كان ينزل فيرشدهم ويصحّح أخطاءهم، وكان النبي يقرّهم على الصواب الذي يتحوّل بإقراره إلى سنّة تقريرية. لكن الأمر تغيّر بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلـّم وانقطاع الوحي حيث وجد الصحابة أنفسهم لأوّل مرة في وضعية جديدة فقدوا فيها ضمانات التدخّل الغيبي وحماية الوحي وعصمة النبوة. وتركوا لأنفسهم يعالجون المستجدات الحادثة، فلم يحدثوا سلطة كهنوتية تدّعي العصمة، وإنما أخذوا يجتهدون في المنصوص وفي المسكوت عنه اجتهادا استدلاليا يتحملون فيه مسؤولية الخطإ والصواب، وكانوا يختلفون، ويعذر بعضهم بعضا دون تكفير أو براء.

سلطـة الديـن وسلطـة الـرأي :

يظهر أن المسلمين لم يتحمّلوا رفع غطاء العصمة بختم النبوّة خاصّة إثر الفتنة الكبرى التي عمّقت الفرقة، فعمدوا إلى تأسيس مفاهيم ترسّخ استمراريتها عبر التاريخ بوصفها سلطة أو أصلا مرجعيا يحتكم إليه على أنّه دين معصوم من الخطإ، فأسّس أهل السنة مفهوم عصمة الأمة وما يترتّب عليه من حجية إجماعهم الذي تحرم مخالفته، وبنوا ذلك على ظواهر ظنية من نصوص القرآن، وعلى أحاديث مثل "إنّ أمتي لا تجتمع على ضلالة"(10) ورغم أنّه خبر آحاد فقد دعّموه بأخبار أخرى في معناه قالوا إنّها تبلغ في مجموعها مبلغ القطع (11) كما استندوا إلى سوابق تاريخية أهمّها قولهم بإجماع الصحابة على بيعة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه.

أما الشيعة فقد أنكروا مفهوم عصمة الأمة وأسسوا مفهوما بديلا جعلوه معتقدا دينيا راسخا هو عصمة الأئمة من أهل البيت، وبنوه على قواعد عقلية مثل قاعدة اللطف، حيث أوجبوا على الله نصب إمام معصوم بعد النبي، واستندوا إلى مرويات مخصوصة مثل خبر "أنت الخليفة من بعدي" وغيره (12)، بل إنّهم استدلوا بأخبار يشاركهم أهل السنّة في روايتها لكنّهم يخالفونهم في تأويلها مثل خبر "تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي : أهل بيتي"(13)

ولكن، رغم سوابغ العصمة التي أضفيت على الأمة عامّة وعلى طائفة أو طوائف منها فقد نبت الخلاف في رحم الأمة الإسلامية الواحدة وتطوّر حتى استوى على سوقه عبر علاقات ضدية وحوارية متنوعة ومعقّدة كانت لها آثارها الواضحة في مسار التاريخ الفكري والسياسي والاجتماعي، فتبلورت مذاهب، وتكونت فرق، وتباينت طوائف كلّ يعتقد أنه على الحق، وأنّه على محجّة الدين الذي يبنى عليه الولاء والبراء.

وليس من غرضنا متابعة أسباب الخلاف التي كثر فيها القول بين القدماء والمحدثين. وإنّما يكفينا أن نؤكد ابتداء أنّ الرأي هو المحرك المركزي لمجمل الاختلافات. بقطع النظر عما يمكن أن يقال عن البنية الإشكالية للنص الديني الذي يتراوح بين الإحكام والتشابه أو الوضوح والخفاء.

وليس خافيا أنّ العلاقة بين الدين والرأي علاقة إشكالية، وهي في بعدها الأوّلي تقوم على التقابل بين سلطة الدين وحرية الرأي. فإذا كان الرأي نزّاعا بذاته إلى التحرر من كل سلطة معرفية خارجة عن الذات فإنّ الدين بطبيعته القدسية المتعالية يطلب التسليم والخضوع الكاملين للتعاليم الإلهية دون أن يكون للمتديّن الخيرة من أمره بعد التزامه بالدين، بل عليه أن يتهم رأيه إذا بداله منه شيء يثير شبهة أو يحرّك إشكالا، فالدين ثابت والرأي نسبي ينتقل كما قال ابن سيرين لرجل سأله عن رأيه في موضوع " لو أعلم أنّ رأيي يثبت لقلت فيه، ولكني أخاف أن أرى اليوم رأيا وأرى غدا غيره فأحتاج أن أتبع الناس في دورهم" (14) والدين منزّه، بينما الرأي متّهم كما قال الصحابي سهل بن حنيف إثر حكم الحكمين بعد يوم صفين : "يا أيها الناس اتهموا رأيكم، فلقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلـّم يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلـّم أمره لرددناه" (15) لكنّ اتهام الرأي في مواقع النزاع أمر لا يطيقه كل أحد خاصة إذا كان موضوع النزاع أمرا دينيا أو مصلحة لها واجهة دينية.

غير أنّ هذا التقابل بين سلطة الدين المنزّه ونسبية الرأي المتّهم لم يبق على إطلاقه العام، بل انتهى به الأمر إلى التداخل في سياق الخلافات التي برّأ فيها كل فريق رأيه وتبرّأ من آراء الآخرين.

والواقع أنّ الدين له من الجاذبية ما يستميل أصحاب الرأي، كما أنّ الرأي له من الفتنة ما يغري عقول المتدينين. وهذا يعني أنّ التداخل بين الدين والرأي ليس ممكنا فحسب، بل هو حتمي تقتضيه بنية الإنسان، وتستدعيه النصوص المشكلة، ويفرضه الواقع الضاغط.

وهذا التداخل بدوره إشكالي من عدة جوانب : منها أنّ الدين بما هو نص يتجه في الغالب إلى احتواء الرأي وتسييجه ضمن ضوابط تحافظ على علوية السلطان الديني. وما يقال عن نزعة التوفيق بين النقل والعقل في الفكر الإسلامي من أنّها نزعة وسطية لا يعني أنها تقف موقفا وسطا بين الدين والرأي بحيث تسوّي بينهما في المكانة وتجعلهما في نفس الدرجة من المرجعيّة، بل يعني أنّها تتخذ من الرأي ذاته أو من العقل موقفا تصفه بأنه وسط، فلا تلغيه مطلقا، ولا تمنحه حريّة مطلقة، أما الدين أو النقل فيظل محافظا على سلطته المهيمنة التي لا ينازعه فيها الرأي، وهو الذي يضبط للرأي المجالات أو الهوامش التي يتحرّك فيها، ويضع له الخطوط الحمراء التي لا يجوز له اختراقها. وعلى الجملة فإن العقل والنقل إذا تعاضدا حسب الشاطبي "فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرّحه النقل" (16) ومن هنا ظهرت منهجيات الاشتراط المقنّنة لأغلب منافذ الرأي في الدين، فالتأويل له شروط لا يقبل بدونها، وكذلك الاجتهاد، والقياس، والمصلحة وغيرها. وغير خاف أن هذه الشروط الضوابط هي بدورها رأي في الرأي بناء على نظرات مخصوصة في النص الديني.

وإذا نظرنا إلى الإشكالية من الجانب المقابل الذي هو الرأي، فإنّ الرأي كثيرا ما يدخل في الدين بجملة من الخلفيات الفكريّة السياسيّة فيكون بمثابة السلطة الموازية التي تؤوّل نصوصه تأويلا إسقاطيا. لكنّ هذه السلطة لا تقدم نفسها على أنها رأي، لأنّ الرأي متّهم عند عامة المتدينين، بل تقدّم نفسها على أنها دين، وهكذا يستعير الرأي سلطة الدين ويكسو نفسه بكسوة النصوص، القطعي منها والمحتمل.

وقد اختلف المسلمون نوعين من الاختلاف كلّ منهما يدخله الرأي والتأويل : أحدهما فقهي موضوعه الأحكام العملية، وثانيهما كلامي موضوعه الاعتقاد. والخلاف الفقهي رغم ما ظهر فيه من تقليد وتمذهب، فقد كان أمره يسيرا نسبيا. لأنّ الأصوليين والفقهاء وجد فيهم "مصوّبة" يرون أنّ الحق متعدد، وأنّ كل مجتهد مصيب، أمّا "المخطئة" منهم الذين يرون أن الحق واحد، فيرون أنّ المخطئ معذور إذا اجتهد، بل هو مأجور أجرا واحدا.

لكنّ مجال الخلاف الذي موضوعه العقيدة شأنه مختلف، لأنه جوهر الدين، إذ العقائد تحتلّ موقع القمّة في سلّم الأولويات، لذلك لا يكتفى فيها بالظنّ، بل هي من القطعيات التي يعدّ الحق فيها واحدا لا يتعدد في نظر جمهور المتكلمين باستثناء البعض مثل بشر المريسي، والجاحظ، وأبي الحسن العنبري الذين يرون أنّ كل مجتهد مصيب في العقائد، لأنّ الحق فيها متعدد وتابع لاعتقاد المعتقد(17).

وقد تكوّنت في التاريخ الإسلامي فرق تتعلق جلّ اختلافاتها بالعقائد المركزية كالتوحيد، وأفعال العباد، والنبوّة، وغيرها، وكانت لها مقالات في الإمامة مثّـلت الوجه السياسي للخلاف، يضاف إلى ذلك آراء في المعرفة، والمرجعيّة، بل تميزت عدة فرق بفقه مضبوط تنظّم به قواعد حياتها الاجتماعية، إلى جانب بعض الخصوصيات التنظيمية المتعلقة بالدعوة(18).

والحاصل أن كلّ فرقة ضبطت لنفسها سياجا من العقائد والآراء السياسية، إضافة إلى بعض الفقهيات ذات الصلة بأصول الافتراق، واعتبرت ذلك كله دينا حقا يتأسس عليه الولاء والبراء، وهو ما جعل رضوان السيد يعتبر وعي البراءة والولاية المقوّم الأول من مقوّمات كلّ فرقة مستقلة، لأنه هو أساس الافتراق وإعادة التكوّن المستقل(19).

فما المقصود بالولاية والبراء ؟

الـولايـة والبـراء :

الولاية والبراء أو التولي والتبرّي مصطلحان متكاملان يتأسس عليهما مفهوم التمايز أو الافتراق. وإذا كانت الولاية ذات بعد استقطابي داخلي، فإنّ البراء ذو بعد إقصائي خارجي، لذلك كان أصحاب كل فرقة يحصرون القواعد الدينية التي يبنى عليها الولاء الداخلي، ويعدّدون مقالات الخصوم التي يتأسس عليها البراء من الآخر المختلف. وعلى ذلك فالولاية تقتضي تجميع الخصائص الذاتية للفرقة بما هي دين، أما البراء فيقتضي بيان الفروق وضبط الخصائص المختلفة التي تمنع الآخر من أن يحظى بولاية الفرقة، فهما كالحدّ في المنطق الذي يشترط فيه أن يكون جامعا مانعا، أي جامعا لخصائص المحدود، ومانعا من إدخال غيره فيه.

يدلّ أصل الولاء والولاية في اللغة على معنى القرب، ومنه التوالي أو الموالاة، لأنّ الموالي قريب من الذي يليه وهذا القرب له جهات متعددة كالقرب من حيث المكان، والنية، الدين، والصداقة، والنصرة(20)، والولاية خطة الإمارة، ووليّ اليتيم الذي يلي أمره ويقوم بكفايته، وولي المرأة الذي يلي عقدة نكاحها(21) فهي بهذه المعاني وما قاربها سلطة مقررة لشخص تمكنه من القيام بأعمال تنفّذ في حق الآخرين.

والمعنى الاصطلاحي المقصود في سياق موضوعنا فيه معنى القرب والتواصل، وفيه معنى السلطة التي تتحكم في مقاييس القرب والبعد، وتقتضي الخضوع والمتابعة، لكنّ مفهوم الولاء لا يقف عند حدود القرب والتوافق، أو الطاعة الشكلية أي إنه لا يراد به دائما خصوص الموالاة العادية بل هو ارتباط واع وطوعي بين فرد أو جماعة وطرف آخر قد يكون وطنا أو شخصا مرجعيا، أو مؤسسة أو فرقة، أو فكرة ونحو ذلك، وهذا الارتباط يقتضي النصرة والمساندة. وهذا كله يعني أنّ الولاء من حيث هو ارتباط واع وتعلق نفسي عميق "يفترض الاستعداد للبذل والنصرة، ويتداخل مع الوفاء والإخلاص"(22). وقد فسّرت الولاية في اللغة بمعنى النصرة(23)، ووردت بهذا المعنى في بعض سياقات النص القرآني كما في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا أَوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقَّا لَهُم مغفرة ورزق كريم ) ]الأنفال : 74[.

أمّا البراء والبرء والتبرّي، فأصلها التفصّي مما يكره مجاورته، لذلك يقال : برئت من المرض، وبرئت من فلان، وتبرّأت منه، وأبرأته من كذا، وبرّأته(24). والمعنى الاصطلاحي للبراء هو عكس الولاء، فهو نزع للولاية ابتداء، وتفصّ من عقائد الآخرين، ورموزهم، وأفعالهم كأنها مرض خطير ينبغي التخلّص منه، وفيه معنى تبرئة الذمة أمام الله من مشايعة المخالف، لكنه فوق ذلك يعني تكفيره، والطعن في دينه وعقيدته.

فالولاء والبراء هما السياج الذي صارت الفرقة تحمي بهما استقلاليتها وتؤسس عليهما موقفها الديني من الفرق الأخرى فتحكم عليها بالكفر أو البدعة أو الفسوق والعصيان. وقد كانا في فترات الفتن عاملا من عوامل تجييش المشاعر وتغذية النزاعات الداخلية.

وليس غرضنا في هذا السياق ذكر الأمثلة، فكثير منها معروف في الماضي والحاضر. لكنّ ما نروم التركيز عليه هو أنّ الولاء والبراء مفهومان دينيان أصّلهما النص القرآني، غير أنّ الخطاب الديني للفرق الإسلامية الذي طغت فيه سلطة الرأي ذي الواجهة الدينية قد أحدث انزياحا في خطاب الولاء والبراء من العموم إلى الخصوص، ومن المركز إلى الأطراف الحافة.

فمفهوم الولاء والبراء في النص القرآني مفهوم واسع يشمل الأمة، وليس مرتبطا بفرقة أو طائفة أو مذهب، ومقياسه المركزي هو التوحيد ونصرة المؤمنين في خصوص الولاء، والشرك ومحاربة المسلمين، وتولّي أعدائهم في خصوص البراء. إنّ المركز الاعتقادي للولاية والولاء في النص القرآني هو الإيمان قال تعالى(الله وليُّ الّذين ءامنوا يخرجُهم من الظُّلماتِ إلى النّور) ]البقرة:257[
(وَالمؤمنون والمؤمناتُ بعضهم أولياءُ بعضٍ ( ]التوبة : 71[ وهذا الولاء لأمّة المؤمنين يقتضي الالتزام بمجموعة من الواجبات كما في قوله تعالى (إنّ الّذين آمنوا وهاجرُوا وجاهدُوا بأمْوالهِم وأنفُسهم في سبيل الله والّذين آوَواْ ونصرُوا أولـئك بعضهم أولياءُ بعضٍ ( ]الأنفال:72[ فالولاية على هذا مركزها الديني هو الإيمان وبعدها الكياني أو البشري عام يشمل كافة المؤمنين دون تحديد للمكان أو الزمان. ودون انحصار في فرقة أو طائفة، وتترتب عليها مسؤوليات أو واجبات سياسية واجتماعية تختلف من ظرف إلى آخر، مثل الهجرة إلى المدينة التي انتفى وجوبها بعد الفتح، وتبقى مسؤوليات مجاهدة المعتدين على الأمة، ونصرة المؤمنين، وإيواؤهم إذا أخرجوا من ديارهم، وغير ذلك مما تقتضيه موالاة المؤمنين في كل زمان. وقد نهى القرآن في كثير من الآيات عن موالاة الكفار الذين لا يؤمنون بالله والآخرة، من ذلك قول الله تعالى ( يا أيُّها الّذين آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَة ( ]الممتحنة : 13[

وجاء في النهي عن موالاة اليهود والنصارى قوله تعالى ( يا أيُّها الّذين آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليهودَ والنَّصارى أولياءَ بعضهم أوْليَاءُ بعضٍ ومن يتولَّهمْ منكمْ فإنّهُ منهمْ ( ]المائدة : 51[

هذا مع ضرورة التفريق بين الولاء بالمعنيين الديني والسياسي في ظروف العداوة المعلنة والاعتداء الظاهر وبين الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، والمحافظة على الذمة والمعاهدات في الظروف العادية. لذلك اشتدّ النكير في القرآن على المنافقين الذين تولّوا يهود المدينة حين جاهروا المسلمين بالعداوة كما قال تعالى (أَلَم ترَ إلى الذين تولّّوْا قوْمًا غضبَ الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلِفُونَ على الكذب وهم يعلمُون) ]المجادلة : 14.

والقرآن لا ينهى المؤمنين عن البرّ بغير المسلمين وحسن معاملتهم لأنّ ذلك لا يعتبر ولاء دينيا ولا سياسيا خصوصا مع الذين لم يقاتلوا المسلمين كما قال تعالى (لا ينهاكُمُ الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدِّين ولم يخرجوكم من دياركم أنْ تبرُّوهم وتُقْسِطُوا إليهم إنَّ الله يحبُّ المُقسطِينَ ( ]الممتحنة:8 [ فالله يحبّ المقسطين بقطع النظر عن المقسَط إليهم بشرط عدم العداوة والمقاتلة، لذلك جاء النهي عن الموالاة في الآية التي بعدها مشروطا بعدم الاعتداء ومعاونة الأعداء ( إنّما ينهاكُمُ الله عن الّذينَ قاتلوكُمْ في الدّين وأخْرجُوكم من ديَارِكم وظاهَروا على إخْراجِكُم أنْ تَولَّوْهُمْ وَمنْ يتولَّهُم فأُوْلـئك هُمُ الظَّالمُونَ ( ]الممتحنة : 9[

وإذا كان أولو الأرحام لهم حظّ من الولاية في حسن التعامل والإرث ونحو ذلك من وجوه الصلة فإنّ ولاية الإيمان مقدمة على ذلك عند التعارض كما قال تعالى (يأيّها الّذين آمَنُوا لا تتَّخِذُوا آباءَكم وإخوانُكم أوْليَاءَ إِنِ استحبُّوا الكفر على الإيمان ومن يتولَّهُمْ منكُم فَأوْلـئك هُمُ الظَّالمونَ ( ]التوبة : 23 [

أما البراء الذي هو نقيض الولاء فمحوره اعتقادي خالص، وهو الشرك كما جاء في كثير من الآيات مثل قوله تعالى : _ قُلْ إنّما هو إلـَهٌ واحدٌ وإنّني برئٌ مِّمَّا تشرِكُونَ ( ]الأنعام : 19 [ والأسوة في ذلك هو إبراهيم عليه السلام ومن معه من أمة المؤمنين في زمنه كما قال تعالى (قَدْ كانت لكم أُسْوَةٌ حسنة في إبراهيمَ والّذين معَهُ إذْ قالُوا لقومهم إِنّا بُرَءاؤُاْ منكم وممَّا تعبُدونَ من دُونِ الله كفرْنَا بكُمْ وبدا بيننا وبيْنكُم العداوة والبغضَاءُ أبَدًا حتّى تُؤْمنُوا بالله وحْدَهُ ( ]الممتحنة :4[

والحاصل مما تقدم أنّ الولاء في النص القرآني مفهوم اعتقادي تضامني يشمل أمة المؤمنين كافّة، وأنّ البراء مفهوم تخلّصي محوره الشرك ومعاداة أمة المؤمنين.

وقد أخذت الفرق الكلامية والسياسية المفهوم الديني للولاء والبراء، وأصّلتهما باعتبارهما واجبين دينيين كما أكد ذلك أبو عمار عبد الكافي الإباضي (25) وهي وإن لم تهمل مفهومهما العام المتعلق بولاية الأمة المؤمنة، فقد ركزت بحكم اختلافاتها الكلامية والسياسية على مفهوم ضيق محدود بحدود مقالات الفرقة ومرجعياتها الخاصة، فصار الولاء والبراء يمثلان سلطتين دينيتين إحداهما لها سلطان على الأتباع تفرض عليهم الولاء، والأخرى لها سلطان على المخالفين توجب البراء منهم وتقصيهم وتحكم بتكفيرهم.

ومن هنا كان أصحاب الفرق يحرصون في الغالب على ضبط بيانات خصوصية لجملة المقالات المركزية التي يبنى عليها الولاء والبراء.

ومن المهمّ أن نشير إلى أنّ المصطلح الذي يغلب استعماله في الخلاف المتعلق بأصول الاعتقاد هو التكفير، أما الولاء والبراء فيوظّفان غالبا في خصوص الخلافات السياسية المتعلقة بالمواقف من الصحابة ومن الإمامة، وبكلّ ما له علاقة بنصرة الفرقة، لأنهما مفهومان لهما شحنة تعبوية، وإن كان التلازم بينهما وبين التكفير والتضليل والتبديع حاضرا باستمرار.

وإذا أردنا زيادة في التدقيق، من المفيد أن نذكر بعض الأمثلة، فعبد القاهر البغدادي – مثلا – بوصفه متكلما سنيا أشعريا ذكر قائمة من المسائل بلغ بها خمسة عشر ركنا منها إثبات الحقائق والعلوم، وحدوث العالم ومعرفة الصانع، وصفاته الأزلية وأسمائه وعدله وحكمته، ورسله، والمعجزات، والخلافة والإمامة، وأكّد أنّ " هذه أصول اتفق عليها أهل السنّة وضلّلوا من خالفهم فيها" وأشار إلى أنهم اتفقوا على أصولها واختلفوا في بعض فروعها اختلافا لا يوجب تضليلا ولا تفسيقا(26) وبعد أن فسّر هذه الأصول تفسيرا مختصرا لم يظهر فيه بوضوح خطاب الولاء والبراء بالقدر الذي يظهر فيه خطاب التضليل انتقل إلى بيان موقف أهل السنّة الأشاعرة من الصحابة والسلف الذين اختلفت الفرق في الحكم على مواقفهم السياسية زمن الفتنة على الخصوص، وهنا تكثّف حضور خطاب الولاء والبراء. فممّا قاله مثلا " وقالوا بموالاة أقوام وردت الأخبار بأنّهم من أهل الجنّة..." (27) ومعلوم أن فيهم الخلفاء الأربعة الذين طعنت فيهم أو في بعضهم بعض الفرق. وقال أيضا "وقالوا بموالاة جميع أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلـّم وأكفروا من أكفرهنّ أو أكفر بعضهنّ" (28) وفي هذا الإجمال إشارة ضمنية واضحة إلى مخالفة الذين طعنوا في عائشة رضي الله عنها ثم قال "وقالوا بموالاة الحسن والحسين والمشهورين من أسباط رسول الله صلى الله عليه وسلـّم ..." وذكر سلسة من أسماء أهل البيت ثم استثنى من الموالاة "من مال منهم إلى الاعتزال أو الرفض" ومن " انتسب إليهم وأسرف في عدوانه وظلمه" (29) وفي ذلك مزايدة واضحة على موالاة أهل ا لبيت الطاهرين بطريقة تخالف منهج الشيعة الذين يسميهم رافضة، ثم تكلم على موالاة التابعين وكل من أظهر أصول أهل السنة. وانتقل بعد ذلك إلى مقالة البراء فقال "وإنما تبرّؤوا من أهل الأهواء الضالة مع انتسابها إلى الإسلام كالقدرية، والمرجئة، والرافضة، والجهمية، والنجّاريّة، والمجسّمة" (30) فانتساب هؤلاء إلى الإسلام لم يمنعه من تسليط سلطة البراء أوالإقصاء عليهم، وهو لم يصفهم بالكفر وإنما وصفهم بالضلال، ويظهر أنّ مقالة التضليل المرتبطة بالبراء لا تخرج الفرق المخالفة من غطاء الانتماء العام إلى الإسلام كما أصّل ذلك أبو الحسن الأشعري حين قال في مفتتح كتابه مقالات الإسلاميين "اختلف الناس بعد نبيّهم صلى الله عليه وسلـّم في أشياء كثيرة ضلّل فيها بعضهم بعضا وبرئ بعضهم من بعض فصاروا فرقا متباينين وأحزابا متشتّتين، إلا أنّ الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم"(31).

ويفهم من هذا أنّ التكفير إذا كان يستلزم البراء، فإنّ البراء لا يستلزم التكفير، بل كثيرا ما يرتبط بالتبديع والتضليل، أي إنه يقتضي نزع الولاء والنصرة والموافقة، ولا يقتضي نزع غطاء الانتماء إلى الإسلام خاصة إذا كان المخالفون يصلّون إلى قبلة المسلمين الواحدة ويقرّون بما هو معلوم من الدين بالضرورة، وعنوان كتاب الأشعري ذو دلالة واضحة في هذا المعنى فقوله "مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين" فيه حرص على إبقاء صفة الإسلام في حق أصحاب المقالات، وفيه تركيز على الصلاة التي توحّد بين المختلفين.

وقد ذهب عدد من الفقهاء إلى أنّ كل من يرى وجوب الصلاة إلى الكعبة المنصوبة بمكة يعتبر مسلما بقطع النظر عن مقالاته في الخلاف، لكنّ هذا القول الذي اختاره بعض فقهاء الحجاز أنكره أصحاب الرأي كما يقول البغدادي، وهم الذين يمارسون علم الكلام ويفصّلون أقوال الفرق المخالفة مثل الأشاعرة، والرأي عنده في الفرق الضالة التي ذكرها وتبرّأ منها أنّها من الأمة المسلمة في أحكام، وليست من الأمة في أحكام أخرى، فهي من الأمة في جواز الدفن في مقابر المسلمين، وفي حظها من الفيء والغنيمة، وفي أن لا تمنع من الصلاة في المساجد، وليست من الأمة في عدم جواز الصلاة على من ينتمي إليهم ولا خلفه، وفي عدم حلّ ذبيحته ولا نكاحه لامرأة سنيّة(32).

فكأنّ أصحاب الفرقة المخالفة عنده هم أصحاب هوية منشطرة بعضها في الأمة وبعضها خارجها مع أنّ الهوية لا تتجزّأ في ذاتها، ومعلوم أنّ معيار الفصل في هذا البراء الجزئي هو مقالات أهل السنّة بالمفهوم الأشعري التي منحها البغدادي سلطة الإقصاء في أنماط هامة من التعامل الاجتماعي كالزواج وغيره.

وهذه الأحكام التي أخرج بها البغدادي أهل البراء إخراجا جزئيا من الأمة ليست محلّ وفاق، فجمهور أهل السنة يرون الصلاة خلف كل بارّ وفاجر، وقد أقام الربيع بن حبيب الإباضي في مسنده "الحجّة على من لا يرى الصلاة على موتى أهل القبلة ولا يرى الصلاة خلف كلّ بارّ وفاجر" واكتفى بذكر جملة من الروايات الصريحة في ذلك دون تدخّل بتفسير أو تأويل(33).

ونختم بذكر خطاب آخر من خطابات الولاية والبراء هو خطاب ابن سلاّم من إباضية المغرب القديم، فقد عقد بابا بعنوان "تفسير شرائع الدين، والولاية عليه والبراء"(34) وبدأه بذكر الشهادتين ثم أخذ يفصّل جملة من الأحكام الشرعية العملية ويفسّرها، ويستشهد بالآيات والأخبار وبعض أقوال السلف، وختم ذلك بذكر رسالة عبد الوهاب بن عبد الرحمـن إمام تاهرت إلى أهل طرابلس، وهي تلخص جملة الشرائع التي فصّلها ابن سلاّم دون شرح واستدلال ومما جاء فيها "أما بعد، فإنّ الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا عبده ورسوله، والإقرار بما أنزل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلا" ثم أخذ يسرد جملة من الأحكام العملية كاتّقاء المحيض والغسل من الجنابة، والتسمية عند الذبيحة، وأداء الأمانة إلى جميع الناس البار منهم والفاجر وغير ذلك، وختم كلامه بقوله "والتوبة من الذنوب والشهادة لأهل الهدى بهداهم، وولايتهم عليه، والشهادة على أهل الضلالة بضلالتهم والبراءة منهم، فمن أقرّ للمسلمين بهذا وجبت ولايته ومودّته والاستغفار له، ووجب حقّه ما لم يحدث حدثا يخرجه من ولاية المسلمين"(35).

واضح أنّ هذا الخطاب لم يبن مقاييس الولاية والبراء على المقالات الكلامية ذات البعد الاعتقادي الخالص، لأنه لم يفصّل ذلك كما فعل عبد القاهر البغدادي الأشعري، وكما يفعل غيره عادة، وإنما اكتفى ابتداء بذكر الشهادتين اللتين تندرج تحتهما ضمنيا جملة العقائد المركزية، ثم ركّز على الشرائع العملية ذات البعد الفقهي، وأغلبها من المعلوم من الدين بالضرورة ومستند إلى آيات وأخبار واضحة الدلالة قلّ أن يدخلها التأويل، وهي مسائل يوافق فيها الإباضية عامة أهل السنّة، بل قلّ من يخالفها من المذاهب الأخرى. وهذا الأمر له عدّة دلالات ليس من غرضنا تفصيلها، وإنّما يكفينا أن نستنتج أنّ الرجل يؤسس بذلك لخطاب ذي منزع وفاقي لا يكاد يختلف فيه أهل القبلة، لأنّه حرص على ذكر الحدّ الأدنى الذي يمثل أرضيّة واسعة للوفاق، ويمكن القول بأنّ المذكور من الشرعيات العملية يمثل الحد الأدنى لما تكون عليه الولاية، والحدّ الأعلى لما يبنى عليه البراء. وعوامل الوفاق إنما تظهر في الأحكام العملية التي يمارسها عامة الناس يوميا في حياتهم الاجتماعية أكثر من ظهورها في الجدليات الكلامية. وتلك الأحكام أكثرها بديهي تسنده النصوص الظاهرة، بينما الكلاميات يدخلها كثير من التأويل الذي يعمّق الفرقة. ولعلّ هذا النوع من الخطاب كان من أبرز الأسباب التي مهّدت للتعايش بين الفقه السنّي المالكي والإباضي بالجريد التونسي بداية من القرن السادس الهجري خاصة في مسائل المعاملات، إذ وصل الأمر إلى أن ينتصب بعض الإباضية للقضاء بين الناس مثل يخلف بن يخلف النفوسي الذي كان يقصده العرب والبربر رغم اختلاف مذاهبهم فيقضي بينهم في الجراحات وغيرها(36).

والملاحظ أنّ المتكلمين لم يكونوا جميعا على مستوى واحد من الهجوم على التكفير والكلام على الولاء والبراء، فمنهم المسرف، ومنهم المقتصد، لأنّ "القول بالتكفير والتبرّي ليس بالأمر الهيّن"(37) كما أكّد إمام الحرمين الجويني بعد أن رفض القول بتكفير منكر أصل الإجماع الذي بناه أهل السنّة على عصمة الأمّة. وقد بيّن ابن تيمية أنّ "أهل السنّة لا يبتدعون قولا، ولا يكفّرون من اجتهد فأخطأ وإن كان مخالفا لهم مستحلاّ لدمائهم"(38) وألّف الغزالي من قبله كتاب "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" لمواجهة فوضى التكفير التي استشرت في زمنه، وبلغه بعض شررها، وقد بيّن فيه خطورة التعصّب المذهبي، وأوصى بكفّ اللسان عن أهل القبلة ما داموا ينطقون بالشهادتين (39) مؤكّدا أنّ الكفر لا يلزم المؤولين، ثم قال مستنكرا " وكيف يلزم الكفر وما من فريق من أهل الإسلام إلا وهو مضطرّ إليه" (40) وشدّد النكير على الذين يكفّرون من يخالف المتقدمين من مشائخ المتكلّمين كالأشعري والباقلاني (41) ووصف بالبلادة من قيّده التقليد وزعم أن حدّ الكفر هو مخالفة المذهب الأشعري أو المعتزلي أو الحنبلي أو غيرها مؤكدا أنّ "من جعل الحق وقفا على أحد من النظّار بعينه، فهو إلى الكفر والتناقض أقرب" لأنّه نزّل صاحب هذا الفكر الواحد الذي تفرّد بالحق منزلة المعصوم(42). وفي هذا نقد صريح لسلطة المراجع الدينية على المقلّدين. فما المقصود بالمرجعية؟ وما هي حدود سلطتها ؟

الـمرجعيــة :

يمكن التمييز بين نمطين من المرجعية أحدهما المرجعية الأصولية، وثانيهما المرجعية البشرية أو العلمية.

ونقصد بالمرجعية الأصولية مجموع أصول الأدلة الشرعية التي تستنبط منها أحكام العقيدة والفقه وعامة المقالات الدينية بما فيهامقالة الولاء والبراء.

أما المرجعية البشرية فهي مرجعية علمية تشمل البشر الذين يحظون بمكانة علمية متميزة لدى المسلمين، وتكون سلطات أدبية ومعرفية تتفاوت بحسب الأشخاص والمذاهب والأزمنة. وهي تشمل علماء القرون الأولى من الصحابة والتابعين وسائر السلف، ثم يدخل فيها كبار الفقهاء من بعدهم، وعلماء الكلام والأصول والحديث وغيرهم من الذين لهم حظّ كبير من المعرفة الدينية التي يقدّرها الأتباع.

والمركز الأعلى للمرجعية الأصولية يحتله الوحي بنوعيه القرآن والسنّة التشريعية، ثم يأتي بعد ذلك الإجماع والقياس، وغيرهما من المراجع التبعية التي كان الخلاف فيها أشدّ من الخلاف في الأربعة الأولى، ومنها قول الصحابي والاستصحاب، والاستحسان، والعرف، والمصلحة وغيرها.

لكنّ هذا التمايز النظري بين المرجعيتين لم يكن حاجزا دون التداخل بينهما بسبب أنّ المرجعية البشرية هي التي تنظر في المرجعية الأصولية وتنطق بها وباسمها. وهذا التداخل هو الذي كان أحيانا ما يمنح المرجعية البشرية سلطة تقارب سلطة المرجعيات الأصولية.

ولهذا التداخل آليات تشتغل بواسطة الرأي والاجتهاد من عدة جوانب أهمها جانبان :

أحـدهـمـا: تدخّل الاجتهاد المذهبي في ضبط المرجعيات الأصولية وبناء تسلسلها التراتبي تقديما وتأخيرا. لهذا وجدنا الفقهاء والأصوليين من أهل السنّة وإن اتفقوا على الأصول الأربعة الأولى التي هي القرآن والسنّة والإجماع، فإنهم يختلفون في مشروعية ما عداها كالاستحسان الذي يقول به المالكية والأحناف ويرفضه الشافعي، إذ اشتهر عنه أنه قال "من استحسن فقد شرع"، بل إنه وصف الاستحسان في رسالته الأصولية بأنه "تلذذ" (43) فهو عنده هوى شخصي وآلية نسبية مرسلة لا تنضبط، فمن استحسن كان بمنزلة من قال "أفعل ما هويت وإن لم أؤمر به" (44) وهذا يعني أنه يرى الاستحسان سلطة شرعية بشرية تقابل السلطة الشرعية الدينية.

ثانيهمـا: تدخّل الاجتهاد في تقنين آليات الاستنباط من الأصول بما فيها المتفق عليها، والخلافات بين علماء الفقه والأصول في العموم والخصوص، والدلالات، والأمر والنهي والنسخ، وخبر الآحاد وغيرها معروفة ومتشعبة.

ولنتوقف قليلا عند مرجعية الإجماع، فهو عند أهل السنة اتفاق مجتهدي الأمة في عصر من العصور على حكم من الأحكام، وليس من غرضنا تفصيل إشكاليات الأدلة التي أصّلت هذا المرجع، فالمهمّ أنه عند جمهور أهل السنّة حجّة قطعية تحرم مخالفتها واختلفوا في تكفير منكره حسب تفاصيل تفرّق في عمومها بين الإجماع القطعي والإجماع الظني الاجتهادي، وهو في صنفه القطعي يتميز على مرجعية النصوص بأنه لا يدخله الاحتمال، ولا يقبل النسخ في عصر انعقاده خلافا للنصوص كما أنه لا يقبله مثلها على مرّ العصور ولو بإجماع آخر، كما أنه لا يقبل التأويل، ويسميه الأصوليون دليلا سمعيا. فهو بهذا المعنى نصّ ذو سلطة مرجعيّة عليا رغم أنه اتفاق بشري حاصل في عصر من العصور بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلـّم ومع أنه قول حادث في التاريخ – على فرض وقوعه بجميع شروطه – فإنّ سلطته المرجعية تمتد لتشمل جميع الأزمنة التاريخية اللاحقة بحكم أنه لا يجوز نسخه وتحرم مخالفته. وبهذا صار الإجماع مرجعا بشريا معصوما من الخطإ يشكّل شبه مؤسسة علمية لا تقبل الردّ والنقاش. غير أنّ أهل السنّة اجتهدوا في تخفيف ثقل المرجعية البشرية فيه حين اشترطوا أن يكون كاشفا عن دليل شرعي وإن لم يتعيّن بنصه.

أما الشيعة فأنكروا عصمة إجماع الأمة وأسسوا عصمة مرجعية الأئمة، ورغم أن قدماءهم القريبين من عصر الأئمة كانوا لا يقولون بالإجماع فإن كبار علمائهم من بعد كالطوسي مثلا صاروا يثبتون حجية الإجماع بشرط أن يكون كاشفا عن قول المعصوم، وهو بهذا المعنى إجماع شكلي ليس له سلطة مستقلة، لذلك كانوا يسمونه "الإجماع الدخولي" أي الذي يدخل فيه قول المعصوم، فالمرجعيّة الأصلية عندهم تتحدد في ثلاثة فقط هي القرآن والسنة، وأقوال الأئمة المعصومين، وقول المعصوم عندهم ليس مجرّد رواية للسنّة بل هو السنّة(45) وبهذا تكون مرجعية الأئمة استمرارا لعصمة النبوّة بعد ختمها، وتكون مرجعية الإجماع الدخولي أو الكاشف استمرارا لعصمة الإمام في عصور الغيبة. وقد انطلق الشيعة من نظرية التفضيل السياسي لعليّ والعترة رضي الله عنهم، ثم تطور ذلك التفضيل ليتأسس عليه التقديس الديني الذي يظهر في العصمة، أما أهل السنة فقد انطلقوا من التفضيل السياسي لأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم حسب الترتيب المذكور. ثم قنّنوا خطابهم حتى أسسوا نظرية "عدالة الصحابة" دون تفريق بين أهل البيت وغيرهم. ومع أن العدالة لا تصل إلى رتبة العصمة فهي تعبير عن تقدير ديني فائق القيمة يصل إلى جعل إجماعهم قطعيا من حيث هو مرجع شرعي، أما إذا اختلفوا على أقوال فإنّ المجتهد السني يختار منها ما يراه راجحا دون أن يسمح لنفسه بتبني قول يخرج عن أقوالهم.

وبعد انقضاء عصر الصحابة والسلف القريبين منهم تكونت المذاهب الفقهية وتأسست مرجعية كبار الفقهاء من مؤسسي المذاهب، وعندما تطور علم الكلام واستقل بوصفه علما متميزا نصّبه الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة سيدا للعلوم تستمد منه مبادئها وحاكما عليها، فامتزج علم الكلام بعلم الأصول وتأسست مرجعيات أئمة المتكلمين كالأشعري والماتريدي، ثم ترسّخ خطاب التقليد المذهبي، وصارت كتب علم الأصول تبحث فيه في إطار أبواب مستقلة وتضبط حدوده وتقنّن مراتبه. وصار خطاب التقليد مؤسسا لمرجعيّة فقهاء المذهب، وهو ما جعل بعض الباحثين يتحدثون عن مؤسسة الفقه في إطار تسييج المرجعيّة(46).

ومع ذلك كلّه، ورغم كل ما قيل وما يمكن أن يقال عن سلبيات التقليد وضغط المرجعيات الفقهية والكلامية عبر التاريخ الثقافي والسياسي للمسلمين فإنّ ذلك لم يصل إلى درجات القول بعصمة المرجعيّة الاجتهاديّة ولم يبلغ مستوى السلطة الواسعة للكهنوت المقدس الذي يضع النصوص وينطق عن الغيب بغير شائبة اجتهاد، صحيح أنّ قسما كبيرا من الأمة يحترم علمهم ويقدّر جهودهم، وأنّ المقلدين والمتعصّبين كانوا يظهرون قدرا مبالغا فيه من التقيّد باجتهاداتهم، ولكن لا نجد من قدس مرجعيتهم بالمعنى الكهنوتي، وأقوال كبار الأئمة في عدم قصر مسالك الحق عليهم معروفة يكفي أن نشير منها إلى امتناع الإمام مالك عن تحقيق رغبة الخليفة المنصور بتوحيد المرجعية المالكية وفرضها على جميع الأمصار. والمجتهدون المقيدون كانوا يعتبرون مناهج أئمتهم مرجعيات أو اجتهادات راجحة لا مطلقة الصواب، لذلك برزت ظاهرة تعدد الأقوال داخل المذهب الواحد.

وقد اشتهر مصطلح المرجعية عند الشيعة الإمامية، خصوصا عند الذين ينكرون منهم تقليد الميت ويشترطون تقليد مرجع ديني حيّ، وقد تعرضت هذه المرجعيّة لأشكال عديدة من سوء الفهم عند الشيعة أنفسهم وعند غيرهم، لأنها في الأصل ليس لها سلطة دينية مقدسة، ولا تنطبق عليها معصومية الأئمة المراجع، ومما نتج عنها مقولة ولاية الفقيه التي لا يتفق عليها جميع مراجع الشيعة ومن أشهر الذين اجتهدوا في تطوير دور المرجعيّة آية الله محمد باقر الصدر الذي عمل على تجديد النظرة إليها وتفعيل دورها السياسي والفكري والاجتماعي إلى جانب دورها الديني الاجتهادي، مميزا بين مرجعية الشخص الذاتية. والمرجعية الموضوعية أو المرجعية الصالحة التي أرادها أن تكون مرجعية مؤسساتية لا تتوقف على الأشخاص الذين يموتون (47).

وقد أفاض آية الله محمد مهدي شمس الدين الكلام في مراجعة مسألة المرجعية عند الشيعة موضّحا حدود الوظائف التي ينبغي أن تقوم بها مؤكدا تنوعها بحسب الظروف السياسية، وانتقد مصطلح "المرجع الأعلى" القائم على فكرة وجوب تقليد الأعلم (48) وحاول تقريب مفهوم المرجعية الشيعية من مفهوم المرجعية السنية المتمثلة في الفقهاء وفي الجامعات العلمية كالأزهر وسائر المؤسّسات الفقهية والبحثيّة. وجوهر المسألة عنده يتمثّل في ضرورة التفريق بين أمرين أحدهما مقبول والأخر مرفوض، أما الأوّل فهو أهمية تدخل الفقيه في شؤون المجتمع، وأما الثاني فيتمثل في سلبية تحويل رأي الفقيه إلى سلطة (49).

خـاتمـة :

إنّ المسلمين مهما اختلفوا وتعددت مرجعياتهم، فقد كانوا ينطلقون من مسلـّمات مشتركة هي التي كانوا بها مسلمين، ويختلفون في مسائل هي التي كانوا بها متباينين، فما اتفقوا فيه لم يمنعهم من الاختلاف، وما اختلفوا فيه لا يسلبهم صفة الإسلام وإن خطّـأ بعضهم بعضا.

والمرجعيات المعرفية مهما ضخّم خطاب التقليد سلطانها، فهي مرجعيات نسبية، فيها الراجح الذي يحتمل المرجوحية، والمرجوح الذي يحتمل الرجحان، ويحسن التركيز على تطوير دورها الإبداعي والاجتهادي، والنظر إلى تعدّديتها على أنها مصدر ثراء لا شيطان فرقة.

أما خطاب الولاء والبراء الخاص بالفرق المتباينة فإنّ ظروف الأمة وتطلعاتها المستقبلية لا تحتمله، لأنّ الهوية المهددة والوحدة المستهدفة تحتّمان تنمية خطاب الولاء للأمة بالمعنى العام الذي أسّسته نصوص الوحي، ويشترط في كلّ خاص أن يندرج ضمن العام لا أن ينقضه، لذلك فإنّ الولاء الخاصّ للمذهب مرجوح بالنسبة إلى أولويّة الولاء العام للأمّة.

التفكير الفقهي بين المثال والواقع

-I طرح الإشكال: ppppddddfffff

يحظى الفقه بمكانة متميزة في الثقافة الإسلامية بوصفه علما يستند إلى الوحي، وينظم حياة الناس في المجتمع. ورغم أنّه يعدّ في سلـّم تصنيف العلوم علما فرعيا أدنى رتبة من العلوم الكلية أو الأصولية، فقد كان أكثر المعارف تعبيرا عن الذهنية الإسلامية لعدّة أسباب منها سعة انتشاره، وكثرة المشتغلين به، والتصاقه القريب بواقع الناس، فهو الذي ينظم العبادات ويحدّد تفاصيلها، وهو المرجع في الفتوى، كما أنّه عمدة القضاة في الفصل بين الخصومات، وإذا أمكن أن يخلو بلد من متكلم أو مفسّر أو محدث فقلّ أن يخلو من فقيه أو عارف بالفقه، وقلّ أن تجد قارئا ليست له صلة قريبة أو بعيدة بالمعرفة الفقهية، بل لا يكاد يوجد مسلم ولو كان أمّيا لم يخطر بباله أن يسأل عن حكم الله في تصرّف معيّن. فالفقه على حدّ تعبير الجابري كان أعدل الأشياء قسمة بين الناس في المجتمع العربي الإسلامي، ولهذا أجاز لنفسه أن يصف الحضارة الإسلامية بأنّها "حضارة فقه"[1].

صحيح أنّ الحضارة الإسلامية أوسع من أن تُحصر في حدود الإنتاج الفقهي، لأنّها تميّزت بخصوبتها وثرائها الثقافي المتنوّع، ولكنّها حضارة تأسّست على الوحي، وافتتحها النص الديني بوصفه محرّكها الأوّل ومصدرها المركزي، وقد كانت العلوم الأولى التي نشأت في محيطها علوما نقلية يتصدّرها الفقه بجمعه بين البعدين النقلي والاجتهادي. ولهذا صار مبدأ "الحلال والحرام" معيارا حاسما في قياس تصرّفات الناس، بل وفي قبول أي علم دخيل على العلوم النقلية، وعلى البيئة الإسلامية عامة. ومازال الناس إلى اليوم يتساءلون عن أحكام كثير من المستجدّات التي تفرزها الحضارة الحديثة، مثل التبرّع بالأعضاء، وأطفال الأنابيب، والاستنساخ، وغيرها، ممّا يدلّ على تغلغل "العقل الفقهي" في الحضارة الإسلامية وعلى مركزية مقياس "الحلال والحرام" وفي ذهنية الناس.

وقد اكتسب الفقه أهميته من جهتين: جهة استناده إلى النص المقدّس بوصفه مثالا للقيم السلوكية، وجهة تعلقه بالواقع العملي لأنّ الناس يحتاجون إليه في عباداتهم ومعاملاتهم. غير أنّ التطابق بين المثال والواقع لم يكن على وتيرة واحدة، وهو ما جعل العلاقة بينهما إشكالية، إذ تارة يطغى المثال على الواقع فيتجاوزه ويرهقه من أمره عسرا، وأخرى يطغى الواقع بضغوطه فينفصم عن التنظيرات الفقهية. وهو ما يحدث توترات تقسّم الفقهاء غالبا إلى ثلاثة أصناف: صنف يتمسّك بالمُثل الموروثة، ويرفض أن يهادن المتغيرات، ويرفع شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصنف يساير الظروف، ويسعى إلى تبرير كثير من المستجدات موظفا مقولة تغيّر الأحكام بتغيّر الأعراف والعادات. أمّا الصنف الثالث فيعمل على التوسط بين الطرفين بحثا عن تركيبة توفيقية تحافظ على ثوابت النص ومقاصده المركزية، وتترك مجالا للمتغيرات بشرط عدم الخروج عن الثوابت الراسخة.

وممّا ينبغي تأكيده في هذا السياق هو أنّ هذه الإشكالية ليست مجرّد مسألة تراثية تجاوزها التاريخ، لسببين على الأقل:

· أوّلهما: أنّ التراث في حدّ ذاته ليس هو ما سكن ذاكرة التاريخ وعفا عليه الزمن، بل هو ما استمرّ من الماضي في الحاضر بوصفه مخزونا ثقافيا مؤثـّرا في عقلية الأحفاد الوارثين بطرق متباينة.

· وثانيهما: أنّ التراث الفقهي يتفرّد بمجموعة من الخصوصيات التي تميّزه عن كثير من أنماط التراث وتجعله موضوعا من مواضيع الحاضر وإشكالية مفعمة بالمعاصرة، ومرتبطة بقضايا اليوم والغد. وذلك لأنّه يستند في قضاياه المركزية إلى النص الديني، أي إلى الوحي الذي يخرجه كثير من الباحثين من سياق التراث على معنى أنّ التراث في اصطلاحهم مختص بما ينتجه الإنسان. أمّا الوحي فهو نص مقدّس يظلّ باستمرار محافظا على قيمته التعبديّة لدى المؤمنين. وبما أنّ التديّن مازال حاضرا في الواقع المعاصر ولو بطرق متفاوتة فإنّ الوعي الديني بقي منشدّا إلى الوحي أوّلا، ثم إلى الفقه بوصفه منظومة علمية تستكشف الوحي وتبيّن أحكام الشرع في سلوك الإنسان. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأنّ الفقه في الوعي الديني ليس مجرّد تراث يُقرأ بوصفه تاريخا، أو تُعاد قراءته قراءة نقدية كما يفعل كثير من الباحثين، بل هو إلى جانب تاريخيته التي لا تُنكَر يُعدّ مرجعا للسلوك ومصدرا للفتوى. فمستفتي اليوم هو كمستفتي الأمس لا يسأل لينقد أو يعيد القراءة إنّما يسأل من منطلق ديني ليعمل أو يترك، ويطرح إشكاله بحثا عن حكم الله في المسألة، واستنطاقا للمثال قصد تطبيقه ولو بصفة شخصية على واقعه المخصوص.

وليست المسألة مخصوصة بالفتاوى الفردية التي صارت اليوم تحظى بمكانة ملحوظة في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل إنّ كثيرا من المستجدّات العلمية والاجتماعية صار المنظرون والمختصون في المجالات العلمية والقانونية يسعون إلى معرفة آراء الفقهاء فيها ولو على سبيل الاستئناس، خاصة عندما يتعلق الأمر بإقناع الرأي العام بموضوع حرج يحتاج إلى كثير من التوعية. ومن يدخل إلى عالم الأنترنات يجد الفتاوى الفقهية قد احتلت مواقع متعدّدة يمكن أن يلتقطها أي باحث مختص أو غير مختص.

كل هذا وغيره يؤكّد أنّ الإشكاليات الفقهية مازالت مطروحة على العقل المسلم في واقعه الحديث، بل لعلها صارت أكثر تعقّدا وأدعى إلى البحث والاجتهاد. والسؤال الملح باستمرار في هذا السياق هو: هل تتضمّن المنظومة الفقهية آليات منهجية تمكّنها من تحقيق ضرب من التوازن بين المثال المقدّس والواقع المتغيّر ؟

ولا ريب أنّ الإشكالية متشعّبة، وذات مداخل وتفاصيل متنوّعة، وإنّما سنكتفي في هذا المجال بإثارة طرف من الموضوع من خلال مدخلين متكاملين ومتداخلين، أوّلهما جدل المثال والواقع في التفكير الفقهي، وثانيهما التفكير الفقهي بين المنهج الافتراضي والمنهج الواقعي.

-II جدل المثال والواقع في التفكير الفقهي:

قد يُنقد التفكير الفقهي بأنّه تفكير مثالي يؤسّس منظومة أخلاقية تحلـّق فوق الواقع، أو بأنّه منهج يبالغ في الافتراضات النظرية، ويتكلم لغة معقّدة لا يفهمها جمهور الناس أو أوساط المثقفين والمتعلمين. لكنّ هذا النقد إن صدق في فترات معيّنة وعلى بعض الفقهاء النظريين، فهو لا يصدق على جوهر التفكير الفقهي بما هو نظر تشريعي يستهدف الواقع مباشرة.

فعندما يقول عمر بن الخطاب في رسالته المشهورة إلى قاضيه أبي موسى الأشعري « الفهم الفهم فيما أدلي إليك »[2] فهو يقصد بذلك فهم الحيثيات العملية المعروضة قبل إصدار الحكم في خصوصها. ولهذا لا يمكن ممارسة الفقه بعيدا عن الواقع، ولا يمكن للفقه أن يكون واقعيا، فذلك هو هدفه المركزي، وذلك هو موضوعه وحقله المعرفي الذي يحدّده ميدان تخصّصه.

وهذا المنحى ظاهر بداهة من خلال تعريفات الفقهاء وعلماء الأصول للفقه، فقد عرّفه الرازي مثلا بأنّه « العلم بالأحكام الشرعية العملية، المستدل على أعيانها»[3] وللعلماء تعريفات متقاربة لا تختلف إلاّ في التدقيقات الاصطلاحية، ولكنّها تلتقي عند بؤرة مركزية وقضية نواة هي جوهر الفقه، لأنّ الجميع يؤكّدون أنّه يهتم بقضايا العمل، أي بإشكاليات الحياة في أبعادها المتنوعة. فالفقه إنّما هو العلم بالأحكام الشرعية العملية، أي بالقضايا الشرعية التي تولـّدها الممارسة اليومية للعبادات وللعلاقات الاجتماعية.

غير أنّ واقعية النظر الفقهي ليست واقعية سالبة تنغمس في المعيش لتقبله كما هو دون تنظيم أو تأطير، بل هي واقعية تستند إلى مرجعية تنظيرية تعالج الحادث، وتطرح وجهة نظرها في المستجدّ. وهنا تظهر مثالية النظر الفقهي، وتبرز جدليته بين المثال والواقع، إذ الفقيه لا ينطلق من فراغ، ولا يحتكم إلى العقل المجرّد، بل ينطلق من "خطاب الله" لأنّ الحكم الشرعي الذي هو موضوع بحثه إنّما هو في التعريفات الاصطلاحية المتداولة « خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين »[4] وخطاب الله هو المثال الذي يجتهد الفقيه في فهمه إن كان نصا أو في الاستدلال بالقرائن والأدلة الدالة عليه إن لم يكن كذلك.

وبناء على ذلك يمكن القول بأنّ الفقه هو تفكير في واقع انطلاقا من مثال. فالمثال هو النصوص الشرعية وغيرها من الأدلة، والواقع هو الأحداث العملية التي تعجّ بها الحياة. فالفقيه ليس شارعا للحكم أو للمثال وإنّما هو كاشف عنه، إذ الشارع هو الله تعالى، كما أنّه – أي الفقيه – ليس ناسخا للواقع بل هو مراع إيّاه أو محقق له بوصفه مناطا للحكم. وبهذا يمكن اعتباره وسيطا معرفيا بين المثال والواقع. وهذا يتطلب منه بداهة أن يكون على وعي تام بطرفي المعادلة، أي متمكّنا من آليات استكشاف الأحكام من الأدلة، وعارفا بملابسات الواقع المتغيّر، فإذا اختلّ وعيه بأحد الطرفين انعدمت فيه صفة الفقه بمعناها الأصيل.

والفقيه بعقله الناظر إنّما يقف بين بعدين كلاهما منفتح مع فروق ظاهرة، فالنص الديني إلى جانب مثله الراسخة ومقاصده الثابتة، وكلماته المتناهية يسمح بقدر كبير من المرونة في إطار كلـّياته، بل إنّ دلالته منفتحة ولا متناهية، ففهم كلام الله تعالى كما أكّد الزركشي « لا غاية له كما لا نهاية للمتكلم»[5]. ورُوي عن أبي الدرداء قوله « لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوها»[6]. أمّا الواقع فهو بنية متحركة منفتحة على تغيرات لا متناهية. وهذا يتطلب من الفقيه أن يتسلح بعقل حركي مرن يستطيع أن يفهم من القرآن ما فهم وما لم يفهم، أي أن يجعل له وجوها على حدّ قول أبي الدرداء، أو أن يثوّره حسب ما روي عن عبد الله بن مسعود « من أراد علم الأوّلين والآخرين فليثوّر القرآن»[7] وبذلك يستطيع أن يتابع حركة الواقع المتغير، فالعقل الساكن لا يقدر على استنطاق النص وعلى محايثة الحياة المتدفقة صوب تغيرات متسارعة لا تكاد تعرف لها نهاية.

ولقد أتت على المسلمين أحيان من الزمن قديما وحديثا تضخّم فيها التنظير الفقهي، واتسعت فيها الفجوة بين المثال والواقع، إمّا لكثرة الافتراضات والجدليات النظرية لدى الفقهاء، أو لابتعاد الواقع تدريجيا عن تمثـّل المثل والأحكام. وليس من غرضنا متابعة العلاقة الجدلية بين الطرفين، فذلك أمر يطول، وهي معقدة ولم تكن على وتيرة واحدة، وإنّما تكتفي بتأكيد أمرين.

· أوّلهما: أنّ الزمن التأسيسي وهو الزمن المثالي في وعي المسلمين إنّما اكتسب مثاليته القصوى من واقعيته، حتى أنّه يصعب أو يقلّ فيه التفريق بين المثال والامتثال، فقد كان الواقع والمثال فيه وجهان لحقيقة واحدة كل منهما يحيل إلى الآخر دون صدام أو تدافع رغم حدّة المشاكل الواقعية التي واجهها الرسول صلى الله عليه وسلـّم في تحقيقه لبيّنات الرسالة، وقد كان ذلك الزمن في الحقيقة زمن تشريع أكثر منه زمن فقه بالمعنى الاصطلاحي الذي عرف من بعد، لأنّ النصوص كانت تشرّع للواقع مباشرة دون وساطة فقهاء مختصين. فقد كان الناس في وضعية ترقّب مستمر لنزول الوحي، وكان الرسول موجودا يبيّن للناس ما غمض عليهم من التشريع. أمّا اجتهادات الصحابة آنذاك فقد كانت نادرة بحكم رجوعهم المباشر إلى المرجع الذي يعايشونه.

· أمّا الأمر الثاني الذي نودّ تأكيده فهو أنّ الفقه رغم جنوحه إلى التنظير، وإلى الافتراضات التي يستدعيها المنطق التوليدي، ورغم ظهور فجوات بين المثال والواقع يظلّ دائما في بنيته العميقة محافظا على طاقة واقعية تجعل النظر الفقهي بحثا في الممكن واجتهادا مرتبطا بالحياة، وينضح عملا. وذلك لأنّ مصادره المركزية وقواعده الكبرى تُعدّ آليات تستهدف العمل أساسا. فالقرآن بوصفه المصدر الأعلى للمرجعية الفقهية هو نص واقعي بحكم ارتباط تشريعاته بملابسات النزول، وبقضايا عينية عايشها الناس، وهو يصرّح بأنّه لا تكليف بما يفوق الطاقة، فهو لم يكن على شاكلة المدن الفاضلة التي حلم بها الفلاسفة في يقظتهم التخيلية، ولكنّه كتاب الواقع يشرّع لمدينة فاضلة في حدود الممكن، ويعامل الإنسان على أنّه بشر من طين ذا أبعاد روحية تؤهّله لإثبات جدارته بالتكليف والاستخلاف، ولكنّه مع ذلك يخطئ ويصيب، ويقدر على أشياء ويعجز عن أخرى.

وكذلك كانت السنّة تعكس نموذجا للإنسان المثالي الذي يعيش الواقع في حدود إمكانيات البشر، ويعلـّم الناس الأحكام بالعمل لا بالتنظير المجرّد، وكان إذا خُيِّر بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وكان يحثّ الناس على الالتزام بما يطيقون، لأنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، كما كان صلى الله عليه وسلـّم يكره التكلـّف، واضحا في بلاغه، مختصرا في بيانه، عمليا في تعليمه وتوجيهه، يراعي ذهنية السائل أعرابيا كان أم غيره، ويقدّر ظروف الناس، ويجيب على قدر السؤال وإن أضاف أمرا فللإفادة العلمية، ويطالب المسلمين بأن يصلـّوا كما يرونه يصلـّي، وبأن يأخذوا عنه المناسك كما يرونه يتنسّك، لا يجرّد المسائل من وقائعها، ولا يخاطب العقول بما تعجز عن فهمه، ولا مجتمعَ الناس بما يعسر الالتزام به. وكان أيضا يكره السؤال عمّا لم يقع أو سكت عنه النص حتى لا يُرهق المكلفون بمحرّمات أو واجبات إضافية تضيّق أفق الإباحة الذي تركوا عليه، ولذلك رُوي عنه صلى الله عليه وسلـّم أنّه قال « إنّ أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم، فحرّم لأجل مسألته»[8] وممّا روي عنه في ذلك أيضا قوله « ذروني وما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»[9].

ثمّ لمّا انتقل الفقه من مراحله العفوية والواقعية الأولى إلى مراحل التقعيد والتأصيل والتنظير احتفظت تنظيراته - رغم سماتها التجريدية التي رسّخها علم أصول الفقه – بدلالات واقعية ظاهرة، فالتنظيرات المتعلقة بالرخص الشرعية مثلا، إنّما تعكس أسلوبا واقعيا في النظر يعامل الإنسان وفق ظروفه المخصوصة، ويراعي الحالات الاستثنائية التي يعجز فيها عن التمسك الجازم بالحكم، فإذا كانت "العزيمة" هي "المثال" بوصفها الحكم الابتدائي العام لكلّ المكلفين فإنّ "الرخصة" تعدّ "الواقع" المستثنى بحسب العوائق الطارئة التي قد تحل بالجسد أو بالعقل أو بالظرف الاجتماعي للإنسان. وكلام الفقهاء على "تحقيق المناط" هو ضرب من البحث في الحيثيات الواقعية التي تصلح لتطبيق الحكم وتجسيم المثال. ومباحث "العرف" في أصول الفقه وفي كتب الفقهاء يمكن أن ينظر إليها على أنّها مباحث اجتماعية تقدّر نوعية العلاقات السائدة بين الناس، وتجعلها مدخلا هاما للاجتهاد الفقهي المرتبط بطبيعة العصر وملابسات المكان وتقاليد المجتمع. ولذلك أكّد الفقهاء أنّ "المعروف عرفا كالمشروط شرطا" وأنّه لا ينكر تغيّر الأحكام بتغيّر الأعراف أو الأحوال. ورغم أنّ كتب الفقه العام وخاصة كتب الخلاف كانت تميل إلى التنظير فإنّ كتب الفتاوى والنوازل كانت تنضح واقعية لأنّ المفتي مطالب دائما بأن يجيب عن سؤال عملي متعلق بواقعة عينية محدّدة دون جنوح إلى التنظير والافتراض، لذلك اعتبرت هذه الكتب مجالا خصبا لدراسة الواقع الاجتماعي من منظور فقهي.

-III التفكير الفقهي بين المنهج الافتراضي والمنهج الواقعي:

تقدّمت الإشارة إلى أنّ المنهج التشريعي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلـّم كان واقعيا بعيدا عن الافتراضات النظرية، ثمّ إنّ الصحابة بعد ذلك واصلوا الاجتهاد والكلام في الأحكام على نفس النسق مواكبين المستجدات الحادثة في عصرهم على نحو واقعي، وكانوا كما كان أغلب التابعين يكرهون التفكير الفرضي، وتكلـّف الكلام على ما لم يقع، والروايات في ذلك عنهم كثيرة منها ما روي أنّ عمّار بن ياسر سئل عن مسألة فقال « أكان هذا بعد ؟ قالوا: لا. قال: دعونا حتى تكون، فإذا كانت تجشّمناها لكم» ومن ذلك أيضا ما رُوي عن عمر بن الخطاب أنّه قال على المنبر « أحرج بالله على رجل سأل عمّا لم يكن فإنّ الله قد بيّن ما هو كائن»[10]. ثم واصل الفقهاء الأوائل وخاصة أهل الحديث منهم الالتزام بنفس المنهج، وهو ما كان الإمام مالك حريصا عليه إذ عُرف عنه كرهه لتسلسل الأسئلة المتولّدة عن بعضها. غير أنّ الواقع كان يتعقـّد باستمرار وأسئلة الناس ازدادت تكاثرا، فلم يتمكّن التفكير الفقهي من الثبات طويلا أمام التيار المتدافع للتساؤلات الافتراضية، ولم يعد الفقهاء جميعا يسكتون إذا سُئلوا عمّا لم يكن، بل صار فقهاء الرأي من العراقيين وأبو حنيفة وأصحابه على الخصوص يلاحقون الافتراضات الممكنة ولا يكتفون بالاجتهاد فيما وقع فقط.

وبذلك عرف التفكير الفقهي منهجين أحدهما أرأيتيّ يستعدّ للبلاء قبل وقوعه كما يقول أصحابه، وثانيهما واقعي لا يصدر الحكم إلاّ عند وقوع الحالة المشكلة، لأنّ أصحابه يرون أنّ معرفة حيثيات الواقعة وملابساتها أدعى إلى استنباط أصوب الأحكام في خصوصها. وللمقارنة بين هذين الاتجاهين يمكن القول بأنّ المنهج الفرضي استباق للواقع، وأنّ المنهج المقابل انتظار له. فالأوّل مستقبليّ يستشرف ما يمكن أن يقع قبل وقوعه، والثاني حينيّ أو آنيّ لا يحكم إلاّ على ما وقع إثر وقوعه. كما أنّ الأوّل "مثاليّ" يجهّز نماذج نظرية ليُسقطها على المتوقع، والثاني "عمليّ" يرفض الحكم على غائب، ولا يريد تحمّل مسؤولية المستقبل قبل ظهوره في الزمان.

والسؤال المهمّ الذي يمكن طرحه في هذا السياق: هل على فقيه اليوم أن يرفض المنهج الافتراضي رفضا حاسما ويتمسك بعقلية الانتظار والترقب رافضا الأسئلة المتعلقة بالممكن مصرّا على الواقعية المباشرة حتى تفاجئه الأحداث والمستجدّات، وتتراكم حوله، وتملك عليه أقطار الواقع بكل ما فيه من تداعيات وإشكاليات لا تحتمل الانتظار ؟

إنّ جوهر المسألة في تقديري لا يتمثل في العمل على ترجيح المنهج الافتراضي بطريقته التوليدية القديمة، أو المنهج الذي يكتفي بترقب وقوع الفعل، بل لا بدّ من السعي إلى توظيف المنهجين بطريقة حديثة تعمل على الاستشراف بقدر ما تجتهد في مساوقة الواقع الفعلي، وذلك لأنّ مناهج البحث الحديث في مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغيرها قد تطوّرت على المستويين العالمي والوطني، وصارت تجتهد في تقليص الفوارق بين التوقـّع والوقوع، أي بين التخطيط المستقبليّ والإنجاز الفعليّ. فالدراسات التوقعيّة صارت تمثـّل جوهر البحث في مختلف المجالات، غير أنّ هذا التوقـّع لا يقوم اليوم على تسلسل الافتراضات الذهنية التي تتوالد ذاتيا بمعزل عن الواقع، بل هو مبني على فهم الواقع ومعرفة الإمكانيات المتوفرة، وعلى دراسات ميدانية وإحصائية دقيقة تمكّن الدارسين والمخططين من الوقوف على التطورات الممكنة مستقبلا، ومن اقتراح ما يمكن أو يجب القيام به على المدى القريب أو البعيد، مع مراعاة أقصى ما يمكن من العوائق التي قد تعدّل التوقعات، إذ أنّه لا يمكن استبعاد اللاّمتوقـّع بصفة نهائية من عالم الإنسان المتغيّر. فالدول المتقدمة اليوم تبني مقوّمات تنميتها وتسيّر شؤون حياتها بناء على مخططات، وتهتمّ بالدراسات الاستراتيجية وبالبحوث المستقبلية والاستشرافية لتقليص ردود الفعل المتسرّعة إزاء المتغيرات، وتضييق عوامل الصدف والارتجال ما أمكن في عالم اشتدّ فيه التنافس وتسارعت حركيّته وتحوّلاته.

فهل بعد هذا وغيره يمكن للعقل الفقهي أن يقنع بانتظار وقوع الأحداث وحصول المتغيرات والمستجدات دون أن يؤسّس نمطا من التفكير الاستراتيجي والبحث الاستباقي، ليكون حاضرا في الواقع المتحوّل بسرعة غير معهودة. فهل من الضروري مثلا أن يكتفي الفقهاء بما قد تسفر عنه البحوث والتجارب البيولوجية ليصدروا عندها أحكاما حينيّة قد يحالف بعضها الصواب وقد لا يحالفه ؟ أم إنّه لا بدّ من متابعة ما يجري، واستشراف لما يمكن أن تسفر عنه هذه التجارب لوضع استراتيجية متكاملة مبنيّة على مقاصد الشرع وأسسه الجوهرية، تمكّن من المشاركة الفاعلة في مختلف الحوارات المتعلـّقة بالنتائج الحاصلة أو المحتملة في هذا الميدان، وغيره من الميادين ؟ وإذا كانت مثل هذه القضايا يشارك فيها الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع ورجال القانون، وسائر المثقفين والمفكرين، فما على الفقهاء إلاّ أن يُسهموا من مواقعهم في كلّ الحوارات التي تشغل مثقفي العصر والفاعلين فيه، وتلك مسؤولية كبرى ما نظنّ إلاّ أنّها مشترَكة.

 

[1] - تكوين العقل العربي: ص 96، المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب – ط 3 – 1987.

[2] - أنظر نص الرسالة في إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيّم الجوزية، ج 1 ، ص 85-86، بيروت – ط 2 – 1977.

[3] - المحصول في علم الأصول: 1/10 – دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان ط 1 – 1988.

[4] - البيضاوي: مناهج الوصول في معرفة علم الأصول، ص 20 (بهامشه: الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج لعبد الله الغماري، مع تعليق وضبط للتخريجات قام به سمير طه المجدوب – عالم الكتب – بيروت لبنان. ط 1 – 1985).

[5] - البرهان في علوم القرآن: 2/155 (دار الجيل – بيروت – لبنان – 1988).

[6] - م.ن: 2/154.

[7] - م.ن: ص.ن.

[8] البخاري: كتاب "الاعتصام" باب "ما يكره من كثرة السؤال" 4/258 (دار المعرفة – بيروت – لبنان – د.ت)

[9] - مسلم: كتاب "الحج" باب "فرض الحجّ مرّة في العمر" 4/102 (دار المعرفة – بيروت – لبنان – د.ت).

[10] - الخبران: أخرجهما الدارمي في سننه: باب "كراهية الفتيا" ص 50 (مطبعة الاعتدال دمشق – سوريا – 1349 هـ / 1930م).

إشكالية الإجتهاد بين العقيدة والتاريخ(العرف والمرأة نموذجا)

تحميل المقالة

تثير مسألة الاجتهاد قضايا متعددة تشعب الحياة الخصيبة بالمتوقع واللاَمتوقع و لعل أهم ما يشغل اهتمام الباحثين في تاريخ التفكير الفقهي لدى المسلمين ، تراوح الاجتهاد بين الحركية و الركود ، أو بين الاجتهاد و التقليد .
وليس من غرضنا استعراض أبرز ما قيل في تفسير عوامل تثاقل حركة الاجتهاد في مراحل دون أخرى ، و إنما حسبنا أن نؤكد ابتداء أنها تظل حركة مشروطة في جميع مراحلها غير أن اقتحام ميدان الاجتهاد بشجاعة حرصا على العلم أو الرضا تقييداً طلبا للسلامة أمران يختلفان باختلاف مناهج النظر إلى شروط النظر الفقهي تقليدا و إرسالا .
ولا نقصد بالشروط هنا خصوص ما يقال في شروط المجتهد بل نقصد عموم المسلمات الإيمانية و الشرعية ، و الخلفيات الفكرية و التاريخية التي يستصحبها الفقيه ضمنيا أو صراحة عند ممارسة النظر تفقها أو تفقيها ، و إفتاء أو قضاء .
وما الشروط سوى ضوابط و أطر تمنح حركة الاجتهاد مشروعيتها وانتظامها داخل النسق الإسلامي العام .غير أن هذه الشروط أو القبليات التي سماها القدماء "مبادئ" 1 مصنفة لديهم حسب بنية متدرجة يحكم أعلاها في أدناها، بعضها كلي و بعضها فرعي فيها الثابت الذي لا يجيزون تغيره ، وفيها ما يكون محل اجتهاد يقبل النقاش و التفاوض .
ولا ريب أن أرقى المسلَّمات التي ينبغي استصحابها عند جميع العلماء بما فيهم علماء الفقه و الأصول -هي مبادئ العقيدة و أصول الإيمان ، إذ هي أرسخ الثوابت و أكبر اليقينيات .
والحاصل أنه يمكن بناء على ما تقدم حصر إشكالية الاجتهاد إجمالا في جدلية معروفة هي جدلية " الثبات و التغير " أو " المثال و الواقع " إذ إِنّ الفقيه يجد نفسه باستمرار في مواجهة التقابل بين الثوابت أو الأحكام الإيمانية و الشرعية المقدسة التي يجب التقيد بها ، و الواقع العملي و التاريخي المتغير الذي يجب مدُّه بالحلول الفقهية اللازمة . و ما الفقيه سوى " وسيط معرفي " بين المثال و الواقع يتراوح بينهما تفهما و إبانة و تطبيقا مع حرص شديد على تحقيق التطابق بين المثال والامتثال ، فالمثال يشده إلى الثبات و يخيفه من الاسترسال في إعمال العقل أو الإسراف في التفكير ، بينما الواقع يضغط عليه بمشاكله المتجددة التي يجب التفكير فيها بمسؤولية وجدية .
وسنحاول -فيما يلي من القول- النظر في هذه الجدلية من خلال أقصى طرفيها، أي أقوى الثوابت و أخف المتغيرات ، أو أرقى المثاليات و أكثرها تجاوزا للتاريخ من جهة ، و أقرب الواقعيات و أكثرها خضوعا لتحولات التاريخ من جهة أخرى. و نقصد بذلك العقيدة بوصفها مبادئ ثابتة و مسلَّمة والاجتهاد غير النَّصِّيِّ المحكِّم للأعراف و العادات بوصفه نظرا في حيثيات اجتماعية مرجعها تواطؤ الناس قولاً وعملاً.
I – بين الحكم الأزلي والاجتهاد الزمني
ليس عجيبا أن يدخل عنصر العقيدة في إشكالية الاجتهاد بل إن إهماله هو الأعجب. و لا غرابة في أن نقول: إنها في عمقها إشكالية اعتقادية بالأساس. ولا نقصد بهذا إنزال أصول العقيدة إلى ساحة الاجتهاد بالمعنى الاصطلاحي – خصوصا وأن الفقهاء لا يعتبرون العقائد من الاجتهاديات بل من القطعيات – وإنما نريد التنبيه على مدى حضور المعتقد في الممارسة الفقهية لندرك أن الخلفية العقدية كانت و لا تزال مرجعية ضاغطة لها تأثير واضح في تثاقل حركة الاجتهاد في أزمنة التقليد حيث كانت مبادئ العقيدة تمثل غطاء تبريريا للمتخوفين من تحمُّل مسؤولية الاجتهاد. وليس معنى ذلك أن المبادرين إلى الاجتهاد من كبار الفقهاء كانوا أقل إيمانا من المقلدين، بل كانوا في تقديرنا أكثر قدرة على التوفيق بين العقائد الأزلية والممارسة الفقهية النسبية التي تعرف حدود قدراتها.
وتفصيل الأدلة على أهمية هذا التأطير الإيماني للإشكالية يطول ، و إنما نكتفي بتأكيد ذلك من جهة مفهومي الحكم الشرعي و الاجتهاد ، ثم نتكلم بعد ذلك على الاجتهاد العرفي المتعلق بالمرأة و الأسرة .
1- مفهوم الحكم الشرعي
عرَّف الأصوليون و الفقهاء الحكم الشرعي عدة تعريفات أهمها أنه "خطاب الله -تعالى- المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير"2، فالحكم الذي يستنبطه الفقيه هو خطاب الله نفسه، وبما أن أهل السنة يعتقدون أنَ خطاب الله أزلي قديم فإن الحكم الشرعي عندهم أزلي يتجاوز الزمان ، و هو تبعا لذلك صفة من صفات الله 3 .
وبناء على هذا يجد الفقيه نفسه في أصل العقيدة لأنه يبحث في موضوع إيماني قبل أن يكون تشريعيا عمليا ، و قد استشكل الأصوليون العلاقة بين فعل الإنسان الحادث في الزمن و خطاب الله الأزلي الثابت في حق الفعل قبل خلق الكون و الحياة ، فأطالوا الخوض في ذلك ، و كان من بين أشهر أجوبتهم أن خطاب الله ، أي حكمه ، قديم متعلق بأفعال العباد تعلقا معنويا قديما ، لكنه يتعلق بها تعلقا " تنجيزيا " حادثا 4 أي متجددا في الزمن التاريخي .
ومهما يكن الجواب فالذي يهمنا هو إثبات وعي الفقهاء بعمق إشكالية العلاقة بين العقيدة والفقه ، أواللازمني والزمني .
وليس الأمر مقصوراً على ما ذكرنا ، بل يمكن أن نضيف أنَ خطاب الله الذي هو حكمه و صفته لا ينحصر في خصوص النص القرآني عند الفقهاء ، بل إن ما ثبت بالسُّنَّة والإجماع والقياس، وسائر أصول الاجتهاد يدخل في مسمَّى الخطاب المذكور في التعريف، وبذلك تزداد العلاقة بين المطلق و النسبي تعقيدا، غير أن علماء أصول الفقه يدفعون هذا الإشكال بقولهم: إن هذه الأدلة غير القرآنية ليست " مثبتة " للحكم ، بل معرِّفات للأحكام، والأحكام ثابتة قبلها؛ لأنها قائمة بذات الله -تعالى- " حسب تعبير أبي الثناء الأصبهاني5 (تـ 749 هـ / 1338 م).
2- مفهوم الاجتهاد
يظهر مما تقدم أن الاجتهاد الفقهي موضوعه أو مطلوبه اعتقادي هو خطاب الله الأزلي الذي هو حكمه و صفته ، وأن المجتهد حين يستنبط الحكم من النص أو بالقياس ونحوه لا يثبت حكما جديدا بل يعرَف بالحكم الأزلي القديم، يؤكد ذلك مفهوم الاجتهاد في اصطلاح الأصوليين ، فقد عرَّفوه بعدة تعريفات متقاربة منها قول ابن الحاجب ( تـ 571 هـ / 1175 م ): هو " استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي6". فالفقيه بناء على هذا لا ينشئ حكما جديدا حين يجتهد أو يفتي و إنما يحصل الحكم الشرعي الأزلي ويطلبه ثم يخبر به ولو كان اجتهاده قولاً لم يسبق أن قال به أحد قبله. وبهذا يصير التجديد الحادث في التاريخ مشدودا إلى المطلق واللا زمني. ويتأكد لنا ما قلناه في البداية من أن الفقيه "وسيط معرفي" بين المثال الثابت والواقع المتغير.
وهذا الكلام يصلح أن يكون وجها من وجوه تفسير تشدد كثير من الفقهاء والمفتين قديما و حديثا ورفضهم إبداء أي مرونة أمام كثير من المستجدات التي يفرزها التاريخ المتحول، وقد نُقِلَت عن كبار الفقهاء ومجتهديهم كثير من الأقوال الدالة على وَرَعِهم وتحرجهم من الفتوى، وهو ورع منبعه الإيمان، والاعتقاد في وجود الجنة و النار، والوعي بأن الفقيه عندما ينطق بالحكم إنما ينطق بحكم الله، بل و يوَقع منه، ولهذا اعتبر المجتهدون موقِّعين عن رب العالمين7. ومن الأقوال المروية في ذلك قول الإمام أحمد بن حنبل " من عَرَّضَ نفسه للفتيا فقد عَرَّضَها لأمر عظيم، إلا أنه قد تلجئ إليه الضرورة ، قيل له : فأيما أفضل الكلام أم السكوت؟ قال: الإمساك أحب إلي ، قيل له: فإذا كانت الضرورة ؟ فجعل يقول: الضرورة، الضرورة، وقال: الإمساك أسلم له، و ليعلم المفتي أنه يوقع عن الله أمره و نهيه ، و أنه موقوف و مسؤول عن ذلك" 8.
ومع ذلك كله فقد كان أئمة المذاهب السنية الأربعة و غيرهم من المجتهدين يمارسون الاجتهاد بجرأة عجيبة أحيانا ويفتون ويواجهون سيل الأسئلة التي كان يفرزها الواقع ليس تحت غطاء الضرورة فقط ، بل لشعورهم بالواجب ، ولخوفهم من عاقبة كتمان العلم. ومن أهم ما كان يخفف عنهم ضغوط المخاوف الإيمانية اعتقادهم أنهم في مجال الاجتهاد الفقهي ليسوا مطالبين بتحصيل اليقين كما هو الحال في العقيدة، وإنما يكفيهم تحصيل " الظن " بالحكم الشرعي كما سبق في تعريف الاجتهاد، فهم ليسوا متعبَدين بتيقن الحق في ذاته ، بل يكفيهم غلبة الظن ، وحكم الله في اجتهاد كل مجتهد ما يغلب على ظنه ، لذلك فهو إذا اجتهد و أصاب كان له أجران أما إذا أخطأ فله أجر واحد و لا إثم في الحالتين ولا لوم ، و لهذا عَرَّفَ الرازي الاجتهاد بأنه " استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم ، مع استفراغ الوسع فيه " 9 فهم بناء على ذلك مكلفون بإدراك حكم الله الذي يؤمنون بأزليته في حدود نسبيتهم ، و في إطار ظروفهم الزمنية الحادثة و المتغيرة .
II- العرف و العادة : مرونة تاريخية محاطة بالثوابت
لا يخرج الاجتهاد المبني على العرف عن الإشكالية المطروحة ، بل لعله أشد قواعد الاجتهاد إحراجا للفقيه؛ لأنه لا ينطق بحكم الله بناء على نص ظاهر الدلالة أو خفيها ، و إنما يستند إلى ما أحدثه الناس من أعراف اعتادوا عليها في مراحل تاريخية معينة. و الفقهاء مع ذلك يرون أن ما يحسِّنه العرف ينبغي العمل به بوصفه حكم الله الأزلي و مما استندوا إليه في ذلك خبر منقول قيل: إنه مرفوع إلى النبي (، و الأرجح أنه قول موقوف على الصحابي عبد الله بن مسعود: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " 10. وهكذا تكون الأعراف المستحدثة عبر مسار التاريخ تعبيرا عن حكم الله الأزلي .
وبناء على ذلك فقد أوجب الفقهاء العمل بالعرف بناء على قاعدة صاغوها بقولهم: " العادة محكَمة " و اعتبروها واحدة من خمس قواعد كبرى يدور عليها الفقه الإسلامي11 وغذَّوها بقواعد أخرى متكاملة تدل على مرونة الأعراف و لزوم تحكيمها مثل قولهم: " لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" و "المعروف عرفا كالمشروط شرطا " و " التعيين بالعرف كالتعيين بالنص " 12 .
ومما يدل على مدى إلزامية العرف أو العادة قول القرافي الفقيه المالكي ( تـ 684 هـ / 1285 م ): " العادة غلبة معنى من المعاني على الناس ، و قد تكون هذه الغلبة في سائر الأقاليم كالحاجة للغذاء والتنفس في الهواء، وقد تكون خاصة ببعض البلاد كالنقود والعيوب، وقد تكون خاصة ببعض الفرق كالأذان للإسلام، و الناقوس للنصارى ، فهذه العادة يُقْضَى بها عندنا "13، فكلمة الغلبة في تعريف القرافي تدل بوضوح على ما يحظى به العرف من قوة ضغط اجتماعي بحيث يكون الخارج عنه شاذاً عما أقرته الجماعة العامة أو الخاصة . بل إن مِثَالَيِ الغذاء و الهواء المذكورين يصلان بالعرف إلى مستوى الضروريات الحتمية .
غير أنَّ الاجتهاد بالعرف ليس مطلقا بغير ضوابط ، فهو مشروط بالإطار العقدي و الديني العام كأي اجتهاد آخر ، بل هو خاضع لقيود الشروط أكثر من غيره لأنه لا يستند إلى نصوص صريحة ، خصوصاً و أنه لا يعتبر مصدراً من مصادر التشريع على جهة الاستقلال كالقرآن و السنة و الإجماع، وإنما هو قاعدة في القضاء و الفتوى يراعيها الفقهاء حين يصدرون أحكاما في خصوص وقائع معينة ، ومن هذه الشروط أَلاَّ يكون العرف فاسدا، وألاَّ يعطِّل نصا أو يناقص أصلاً من الأصول الشرعية القطعية، وألاّ يعارضه دليل أقوى منه كالإجماع والقياس، وأن يكون مطَّردا بين متعارفيه في جميع معاملاتهم، وأن يكون موجوداً عند إنشاء التصرفات، وكذلك ألاّ يعارضه تصريح بخلافه 14.
ومن شأن هذه الشروط أن تضيِّق مجال العمل بالعرف لأنها تحيطه بسياج كثيف من الضوابط التي تجعله من آخر ما يلجأ إليه في بعض فروع الشريعة لا في جميعها ، بل إنه يعمل به كما صرَّح فقهاء المالكية في الأحكام التي وكَّل الشرع أمرها إلى العرف كألفاظ الناس في الأيمان و العقود و الفسوخ حيث يحكَم في تخصيصها أو تقييدها ، وكتقدير نفقات الزوجات و الأقارب و كسوتهم15 ونحو ذلك مما يصعب اعتباره أحكاما تراعي حركية التحولات الاجتماعية مراعاة شاملة و مُؤَثِّرة في إحداث تغيرات نوعية ، بل الملاحظ أن أغلب أحكامه تكاد تقتصر على مسائل إجرائية، وتراتيب عملية تنفيذية لا ترقى إلى مستوى الإسهام في متابعة التطور التاريخي بناء على رؤية تأسيسية شاملة .
صحيح أنه وجدت بعض الفتاوى الجريئة التي خالفت أحيانا أقوال أئمة سابقين ، أو بعض الأصول المقررة ، لكنها تظل ضربا من الاستثناء غير المُؤَثَّر.
أما إذا نظرنا إلى الأعراف المتعلقة بالمرأة و الأسرة فإن طوق الشروط يزداد ضيقا لأن الموضوع ذو حساسية شديدة ، و محاصر بكثير من الخلفيات الموروثة ، بل إنَ الأعراف و التقاليد نفسها تعتبر في حد ذاتها قيودا إضافية على وضعية المرأة يُرَسِّخُهَا تقادم التاريخ و استمرار العمل بحكم سيطرة الرجال على النساء في المجتمعات القديمة .
أضف إلى ذلك أن عقيدة المسلمين في الخلق الإلهي تفرض عليهم الإيمان اليقيني بأنه ( لا تبديل لخلق الله ( 16، و بأن سننه في الخلق و التكوين ثابتة لا تتغير ، و لا ريب أن الفقهاء ينظرون إلى المرأة نظرة مؤسسة على أنها مخلوق إلهي ذو خصائص أنثوية لا يجوز تغييرها ، و لها أحكام شرعية تطابق خلقها بوصفها أنثى ، لذلك فإن كل اجتهاد يميل إلى تطوير النظر في أحكام المرأة بما يخالف في نظرهم ما خلقها الله عليه يعَد منكرا من القول يصادم عقيدة الخلق ، وهذا الاعتقاد يعتبر أحد أبرز العوامل التي تفسِّر تشدد عامة الفقهاء في خصوص أحكام المرأة .
غير أنَ ما تقدم ذكره لم يكن عبر التاريخ بالصورة الضيقة التي بيَّنا بعض وجوهها ، و ذلك لأن احتمالية عدة نصوص ، ومرونة عدد من الأعراف كانت تسمح بإنشاء فتاوى فيها قدر لا يستهان به من احترام مكانة المرأة و الاعتراف بشخصيتها القانونية أو بأهليتها الحقوقية و التكليفية ، و عندما ننظر في فتاوى المالكية بالغرب الإسلامي قديما نلاحظ وجود أحكام من هذا الصنف سواء أكانت موافقة لمذهب مالك و أقوال كبار تلامذته و مقلِّديه أم كانت مخالفة لهم ، كما نجد فيها ما يراعي مصالح الأسرة وضبط العقود ، و إحكام الفصل بين الخصومات ، و نجد أيضا بعض ما يخالف الأصول و ظواهر النصوص ، و يشكك في الوثوق بأقوال المرأة ، و لا يهتم بمراعاة إرادتها .
ومن أمثلة ذلك أن المالكية كانوا يفتون بما ذهب إليه مالك من مراعاة العرف في الرضاع إذ خصص به آية (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين( 17 فلم يجعله عاما في كل الأمهات بل أخرج منه المرأة الشريفة ذات التَّرفُّه ، إذ ليس من عرف أمثالها الالتزام بالإرضاع فصار كالشرط 18، والمعروف عرفا كالمشروط شرطا . والملاحظ أن هذا عرف خاص ببعض الأسر المترفهة، إن كان يراعي عادة المرأة و كمالياتها فهو لا يراعي تبادل الواجبات الأسرية بين الرجل و المرأة ، بل لا يراعي مصلحة الولد الذي يحتاج إلى لبن أمه، و يوجب على الزوج استئجار ظئر ترضع ولده، ولا يجبر أمثال هذه المرأة على الإرضاع إلا إذا رفض الولد أن يرضع غيرها 19.
ومن الأحكام التي اعتبر فيها العرف إرادة المرأة ، عرف قديم خاص بأهل القيروان تشترط فيه المرأة على الرجل أن يكون طلاقها بيدها إذا تزوج عليها غيرها، ومع ذلك فقد أفتى ابن عرفة (تـ : 803 هـ / 1402 م) بمخالفة هذا العرف إذا أخرجها الزوج من القيروان بغير رضاها20، رغم أنَّ هذا الفعل يدل على حيلة ظاهرة يقصد بها الزوج إخراج المرأة من المحيط الجغرافي الذي يتقيد بالعرف المذكور.
ومن الأعراف المخالفة للنصوص ما جرت عليه العادة بإفريقية قديما بل إلى عهود قريبة من أن وصف العروس للخاطب من قبل ذوي الخبرة بالجمال يبيح تزويجها له ، رغم أن الأصل يقتضي أن يُمَكَّنَ الخاطب من رؤية العروس خصوصا إذا طلب ذلك ، و قد حدث أنَّ ابن عرفة تعرَّض لبعض المشاكل عندما أراد مخالفة العرف والعمل بالأصل الذي يقتضي الرؤية. وقد حدث له ذلك في زواج إحدى بنات سراة القوم ، فاضطُرَّ إلى مسايرة العرف والإقرار بصحة الزواج بمجرد الوصف21. وهذا مثال للأعراف الضاغطة التي تتجاوز أصول الشرع ولا تعترف بسلطة الفقهاء.
ومن أمثلة مراعاة ابن عرفة لتنوع الأعراف أنه أجاز ما عرف قديما في بعض البوادي بزواج " الجفنة " حيث كان يكتفى بالوليمة بوصفها شهادة على الزواج ، لكنه لم يجز ذلك لسكان المدن و الحواضر الذين تعارفوا على كتابة الصداق22. ويظهر من هذه الفتوى أنَ الزواج العرفي ليس خاصا بالذي ليس فيه توثيق رسمي ، بل إنَ كتابة الصداق تعتبر بدورها عرفا مستحدثا، وهو عرف يحقق مصلحة جميع الأطراف ويسهم في استقرار العلاقات و المحافظة على الحقوق عند التنازع مثل إثبات النسب ، و توزيع التركات و الحكم بالنفقة .
ومن الأعراف التي تسلب الثقة التي منحها الشرع للمرأة ما جرى به العمل من الاعتداد بالأشهر. فالنصوص صريحة في أنَ المرأة التي تحيض تعتَّد بالأقراء كما في آية (والمطلَقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء(23، فالأصل أن المطلَقة لا تحلَ للأزواج إلا إذا رأت الحيضة الثالثة و أنها تصدَّق إذا أخبرت بذلك عن نفسها. لكن الذي جرى عليه العمل عند المغاربة و أفتى به فقهاء المالكية أنها لا تصدَّق في أقل من ثلاثة أشهر، بمعنى أنه لا بد أن تعتدَّ ثلاثة أشهر مع اعتبار الأقراء منذ يوم طلاقها وقد علَّلوا ذلك بفساد الزمان و رقَّة الأديان 24.
و المشهور في المذهب المالكي أن المرأة تصدَّق في بكارتها و في سلامتها من الأمراض الجنسية إذا ادَّعى الزوج أنها مريضة أو ليست بكرا . لكن الإمام سحنون ( تـ 240 هـ / 854 م ) خالف قول مالك و أصحابه و أفتى بجواز نظر النساء إليها للتأكد من صحة أقوالها ، و مما علَّل به فتواه أن ذلك جرى العمل به عند متأخري الفقهاء، وهذه الفتوى تنطبق على الرجال كذلك إذا طلبت المرأة الطلاق لعيب جنسي فيه25، وهي فتوى معقولة تعوضها حديثا الشهادات الطبية لأن حالات التنازع لا يكتفى فيها بمجرد الادعاء.
ومن الفتاوى التي ظهر فيها الميل إلى إقرار ما يساعد على تحقيق التعاون داخل الأسرة مسألة " الشّوار" بالضم و الفتح في الشين وهو متاع البيت و جهاز العروس، فالأصل في الشريعة يقتضي أن يلزم الزوج بالصداق و لا تلزم العروس و لا أبوها بشيء ، لكن العادة جرت قديما في المهدية و في كثير من مدن المغرب مثل فاس بأن والد العروس يلتزم من الجهاز بمثله ، و مع أن هذه العادة نشأت في الأصل على سبيل المكارمة و التعاون دون إِلزامات قضائية فإن الإمام المازري (تـ 451 هـ/1058 م ) و غيره من فقهاء إفريقية و المغرب أفتوا بإلزام العروس أو الأب أو الولي بذلك عند النزاع و مطالبة الزوج بالشَوار أمام القضاء إذا شهد الشهود أن عرف البلد يقتضي ذلك، هذا مع إقرارهم أن الجهاز محمول في الأصل على الاستحباب والتعاون والمكارمة ، لكن القضاء يتدخل ليحكم بناء على العرف إذا حصل نزاع بعد الدخول لا قبله 26.
هذه نماذج من الفتاوى الخاصة بالأسرة و المرأة في الغرب الإسلامي قديما وليس من غرضنا التوقف لتقويمها أو نقدها ، فقد كانت وليدة تاريخها الخاص وظروفها الاجتماعية الماضية، ويكفينا أن نشير إلى أن ثوابت العقيدة وشروط التقيد بالأصول لم تمنع الفقهاء من تحكيم ضغوط الأعراف الحادثة في تاريخهم ولو خالفوا بعض الأصول والأقوال المستقرة قبلهم في المذهب المالكي، بل هم يذهبون إلى أن ما حَسَّنوه من الأحكام بناء على العرف الذي يفرزه المجتمع هو حسن عند الله و هو حكمه الأزلي المتعلق بواقعهم تعلقا تنجيزيا حادثا في الزمان.
لكن كثيراً من الأعراف القديمة التي بنيت عليها فتاوى الفقهاء السابقين تغيرت في هذا العصر الذي صارت له أعراف و عادات اجتماعية مغايرة لما مضى بسبب عمق التحولات التاريخية و الحضارية و ارتفاع مستوى التعليم واقتحام المرأة كثيرا من الميادين التي كانت غائبة عنها .
وعند هذا الحد يصير للإشكالية وجه معاصر تضيق عنه حدود هذه المداخلة .
______________________
1 - يقصدون بذلك المسلَّمات التي تقبل تقليداً دون برهان؛ لأنه برهن عليها في علم آخر ، إذ لا حاجة إلى إعادة البرهنة عليها مجددا .
2 – الإسنوي، نهاية السول في شرح منهاج الأصول، دار ابن حزم، بيروت، ط 1 /1999م، ج1، ص31.
3 - قال علاء الدين السمرقندي :" حكم الله –تعالى- صفة أزلية له هو فعله " ميزان الأصول 1/112، وزارة الأوقاف العراقية، ط 1 / 1987م.
4 - حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع ، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، د . ت، ج1، ص 67-68.
5 - بيان المختصر / شرح مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، دار السلام، القاهرة، ط1/2004م، ج1، ص206.
6 - منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول و الجدل، دار الكتب العلمية – بيروت – ط 1 /1985م، ص 209.
7 - لابن قيم الجوزية كتاب مشهور بعنوان " إعلام الموقعين عن رب العالمين "، دار الفكر، بيروت، ط 2 /1977م. ومن ذلك قول ابن المشاط المالكي المالكي "المفتي مع الله كالمترجم مع القاضي"، الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1990م، ص 275.
8 - ابن عبد البر القرطبي، "جامع بيان العلم و فضله" 1/177، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978م.
9 - المحصول في علم أصول الفقه، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 /1988م، ج2، ص489.
10 - ابن نجيم، الأشباه و النظائر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 / 1981م، ص 89.
11 - م . ن : ص 7.
12 - عبد الكريم زيدان، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، مكتبة القدس، مؤسسة الرسالة، ط 5 /1976م، ص 102.
13 - شرح تنقيح الفصول، دار الفكر، القاهرة، ط 1/1973م، ص 448.
14 - مثال ذلك إذا كان العرف الجاري تعجيل نصف المهر و تأخير نصفه لكن الزوجة شرطت تعجيل كل المهر، وقَبِلَ الزوج ذلك -فإن العرف لا يُحَكَّم في هذه الحالة لأنه لا يلجأ إليه إلا إذا لم يوجد ما يفيد مقصود العاقدين صراحة . انظر : بدران أبو العينين " أصول الفقه الإسلامي، مؤسسة الرسالة، الإسكندرية، مصر /1984م، ص 229-230.
15 - حسن بن المشاط، الجواهر الثمينة في أدلة عالم المدينة، ص 271.
16 - سورة الروم، الآية 30.
17 - سورة البقرة، الآية 233.
18 - 19 – القرطبي، " الجامع لأحكام القرآن، دار إحياء التراث، بيروت، ط 2 /1952م، ج3، ص161.
20 - سعد غراب، ابن عرفة والمنزع العقلي ، الدار التونسية للنشر – ط 1/1983م، ص 174 –175.
21 - محمد الشتيوي، تاريخ المذاهب الفقهية بإفريقية، المركز القومي البيداغوجي، تونس، ط 1 / 1998م، ص 108-109.
22 - م . ن، ص 108.
23 - سورة البقرة، الآية 228.
24 - عبد الكريم الجيدي، العرف و العمل في المذهب المالكي، المحمدية، الغرب / 1982م ، ص 40 – 431.
25 - م .ن، ص 434-435.
26 - الطاهر المعموري، فتاوى المازري ، الدار التونسية للنشر/ 1994م، ص 120 – 121، وعبد الكريم الجيدي، م . سابق ، ص 432 –433.