الصوم و مقام الإحسان

ليس المقصود بالإحسان في كلامنا الإحسان إلى الوالدين واليتامى والمساكين، فذلك فعل حسن له مجال آخر من القول. وإنما نريد بالإحسان تحسين الفعل والارتقاء به إلى أعلى درجات الإتقان بناء على أمرين متكاملين هما الصدق والإخلاص ثم الخبرة والمعرفة، إذ لا يغني إخلاص مع جهل، ولا تنفع خبرة مع فساد طويّة، لذلك قالت ابنة صالح مدين لأبيها في حق موسى عليه السلام ﴿ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ (سورة القصص: الآية 26) والقوّة تعني القدرة على الفعل والأمانة تعني الصلاح والثقة، ولذلك قال يوسف لملك مصر في زمانه ﴿ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (سورة يوسف: الآية 55) والحفظ صفة ثقة وإخلاص، والعلم صفة خبرة وكفاءة، وبالأمرين يتحقق إحسان العمل وإتقانه.

والله تعالى إنّما خلقنا وخلق الموت والحياة ليبتلينا أيّنا يبلغ درجة إحسان العمل كما قال ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ (سورة الملك: الآية 2) وقد بيّن المفسّرون أنّ العمل الحسن أو الأحسن هو ما توفرت فيه صفتان متكاملتان فكان خالصا صوابا، أي خالصا لوجه الله وقائما على الصدق والتقوى من ناحية، وصوابا بمعنى متقنا صحيحا قائما على المعرفة، فلا تنفع عبادة يريد صاحبها الإخلاص وهي غير مطابقة للشروط الشرعية، كما لا تجدي عبادة كاملة الأوصاف حسب ظواهر الشرع وهي خاوية من الإخلاص وصدق النية، وباجتماع الأمرين يتحقق الإحسان، لذلك كانت عبادة العالم أفضل من عبادة الجاهل بدرجات كثيرة.

وأحسن طريقة تساعد المؤمن على بلوغ درجة الإحسان في العمل هي "المراقبة" أي الشعور بمراقبة الله له عند الممارسة، والدليل على ذلك حديث جبريل المعروف والثابت في الصحيح، فهو عليه السلام عندما تمثل في صورة رجل وسأل الرسول صلّى الله عليه وسلم عن الإيمان ذكر له أركانه المعروفة، وعندما سأله عن الإسلام ذكر له أركانه العملية المعروفة التي منها الصوم، ولمّا سأله عن الإحسان قال له "أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك" وللصوفيّة تفنّن في شرح هذا الحديث، إذ قسّموا التديّن إلى ثلاثة مراتب أوّلها عمل أهل البداية وهو الشريعة، وثانيها عمل أهل الوسط وهو الإيمان أو الطريقة، وثالثها، عمل أهل النهاية وهو الإحسان أو الحقيقة، وقالوا: الشريعة أن تعبده، والطريقة أن تقصده، والحقيقة أن تشهده، وبناء على ذلك فإنّ الشريعة لإصلاح الظواهر، والطريقة لإصلاح البواطن، والحقيقة لإصلاح السرائر.

وبقطع النّظر عن كل ما يمكن أن يقال في هذا التقسيم فإنّ الإحسان ليس مقاما منفصلا عن الإيمان والإسلام بل هو ممارسة لهما بصدق وإتقان، وهو أن تلتزم بشريعة الله التزاما يجمع بين صواب الظواهر وإخلاص السرائر، وأن تكون لك رقابة ذاتية تجعلك تعبد ربّك كأنّك تنظر إليه، وبما أنّه لا تدركه الأبصار فكن واثقا أنّه يرى عملك، ومعلوم في حياتنا اليومية أنّ المرؤوس يكون له اجتهاد فائق في العمل حين يعمل ورئيسه واقف ينظر إليه وأنّ هذا الاجتهاد غالبا ما يقلّ عند غيبته، فما بالك إذا كان كلّ عمل ابن آدم يقع تحت رقابة الله الذي لا يغيب إلاّ عن الأنظار الظاهرة وهو حاضر عند أصحاب البصائر الشاهدة.

وعبادة الصوم من أفضل العبادات التي تساعد المؤمن على بلوغ مقام الإحسان في العبادة، لأنّ الصائم إنما يترك شهوته وطعامه وشرابه لله تعالى، وتجده يلتزم بذلك في خلوته حين تغيب عيون الرقباء من الناس ولا تغيب الرقابة الإلهية التي لا يعزب عنها شيء، ولولا شعوره بحضور الله ومعيّته ما تكبّد مشقّة الضغط على رغبات الجسد، ولو كان يصوم للناس لفعل ما يحلو له عند غيبتهم، لكنّه يصوم لربّه الذي لا يأفل، فحبّه لله أقوى من حبّه للآفلين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق