العبادات والحياة أو (الإفلاس الاجتماعي )

العبادات والحياة

أو (الإفلاس الاجتماعي )

أو (بين عملة الدنيا وعملة الآخرة)

كما أنّ الوجود قائم على ثنائية الغيب والشهادة فإنّ الإنسان مخلوق بناء على هذه الثنائية،فهو جسد يمثل شهادته، وروح هي غيبه المكنون الذي لا يعلم سرّه إلاّ الله تعالى، والعبادات التي شرعها الإسلام لها غيبها وشهادتها، أو روحها الباطن وشكلها الظاهر، فمن صلّى لربّه بطريقة تراعي الشروط الظاهرة بغير خشوع، بل بفكر شارد، وذهول يطوف بصاحبه بعيدا عن مقام التبتّل كان كمن قدّم لربّه قربانا ميّتا بلا روح، ومن صام عن المفطرات المادية وانهمك ينهش لحم العباد ويلوك أعراضهم بلسانه العطشان فلا حاجة لله في صومه الخاوي من ستار التقوى والخلق الحسن.

والعبادات إنّما شرعت لمقصدين مركزيين ومتكاملين أولهما التوجه الخالص إلى اللّه تعالى بالتقديس والخشوع، وثانيهما تهذيب النفس وتحسين السلوك الفردي والاجتماعي لذلك قال تعالى ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ (سورة طه: الآية 14) وهذا هو مقصد الإخلاص والتقديس، وقال عزّ وجل ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ﴾ (سورة العنكبوت: الآية 45) وهذا هو المقصد الخلقي والاجتماعي.لذلك فمن لم تنعكس عباداته على سلوكه في الحياة وعلاقته مع الناس بالتهذيب وحسن المعاملة كان كمن يقوم بجهد ضائع وتجارة خاسرة تؤدي به إلى الإفلاس.

ومصطلح الإفلاس الذي ذكرناه في سياق التعبّد ليس من اختراعنا وليس تقوّلا على الله ورسوله، بل هو مصطلح استعمله الرسول صلّى الله عليه وسلم، واقتطعه من مجال تداوله الاقتصادي ليوظّفه في مجال التعبّد والسلوك.

ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلم قال سائلا أصحابه "أتدرون ما المفلس؟" قالوا: "المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع" فقال: "إنّ المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، و يأتي قد شتم هذا، وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقْضَى ما عليه، أخذ من خطاياه فطرحت عليه، ثم طرح في النار".

إنّ هذا الحديث فيه منهج تعليمي يقرّب وقائع الآخرة بتوظيف مصطلحات الدنيا، ويقلب التصوّر الذي اعتاده الناس في ترتيب العلاقة بين الحقيقة والمجاز، ليست مصطلحات الدنيا حقائق تقابلها مجازات الآخرة، بل العكس هو الأصحّ. والصحابة حين أجابوا بأنّ المفلس في عرفهم هو الذي لا يملك مالا، تصوّروا أنّ هذا هو المعنى الحقيقي الوحيد للإفلاس، لكنّه مجازيٌّ لأنّه ينتهي بانتهاء الدنيا وقد يتحوّل في الدنيا نفسها إلى ثراء مادي. أمّا الإفلاس بمعناه الحقيقي الذي لا فرصة بعده للربح فهو الذي يكون عند الحساب الأخروي.

وهذا المعنى المذكور في الحديث يقوم على مفارقة ظاهرة تميّز بين عملة الدنيا وعملة الآخرة، فعملة الدنيا هي النقود والمتاع أمّا عملة الآخرة فهي الحسنات والسيّئات، لكن هذه العملة الأخروية إنّما هي أعمالنا الدنيوية بخيرها وشرّها تتحوّل في موازين القسط إلى حسنات وسيئات، وبها يقع التقاضي وردّ المظلم في يوم الدين.

وفي الحديث موازنة بين العبادات الشخصية والمعاملات الاجتماعية، فالغنيّ والمفلح الحق هو الذي انعكست أعماله التعبّدية من صلاة وصيام وزكاة وحجّ على حياته الاجتماعية، فكان سمحا في أخلاقه، يسلم الناس من يده ولسانه، بل يعين المحتاج ويساعد الضعيف.

أمّا الذي كثرت عباداته الشخصية بينه وبين ربّه وتجمّعت حسناتها الكثيرة في ميزانه ولم يكن مستقيما في علاقاته البشرية، فهو مفلس اجتماعيا في الدنيا إفلاسا تظهر عواقبه السيئة يوم الحساب العادل، هل يظنّ من يضرب الناس ويشتمهم ويأكل أموالهم بالباطل أنّ صلاته وصيامه سيحميانه من نتائج إساءته للناس ! فالذين اعتدى عليهم يلتهمون حسناته رغم كثرتها، وإذا فرغ رصيده منها ولم يبق ما يسدّد به الدَّين عوقب بأن تؤخذ سيئاته فتوضع في ميزانه فيصير مفلسا حقا.

والدرس الأساسي الذي نتعلّمه من هذا الحديث هو أنّ العبادة لا تنحصر في محراب الصلاة وإمساك الصوم، وكثرة الحجّ والاعتمار وأداء نسبة الزكاة، بل ينبغي أن تشمل الحياة كلّها من أجل تحقيق السّلم الاجتماعي وبناء يسر التعامل، والإحسان إلى العباد الذين هم عيال الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق