من ذكريات الصغر في رمضان أني كنت أسمع الكبار من العوام يتحدثون عن انتظار ليلة القدر وكأنها ضربة حظّ نادرة لمن تطلع لهم، فتحوّل قدرهم التعيس إلى قدر أجمل، وتبدّل فقرهم غنى، وحزنهم فرحا، فهي ليلة تكتب فيها الأقدار –رغم أنّ قدر الله قديم أزلي لا يحصر في زمان- وتقدّر فيها الأعمار، ولها حضور مادي مشخّص يمكن أن يراه من حظي بها. ومن كلامهم أنّها نور يتلألأ في السماء لمن شهدها حيث يفتح له باب العرش، ثم تطلب منه تلك الليلة أو ملائكتها أن يصرّح برغباته التي تستجاب له حتما. وقد سمعت إحدى قريباتي رحمها الله تؤكد جازمة ومقسمة أنّ هذه الليلة طلعت لها إذ غمرها نورها الوهاج وسمعت صرير انفتاح باب العرش وحركة انطباقه، لكنّها فوجئت بها وامتلكتها رهبة جعلت فرصة تقديم طلباتها تفلت منها، فبقيت تتذكرها دائما بحسرة البالغة. وكم كنت أسمع بعض الناس يصرّحون بإعداد قائمة رغباتهم حتّى لا تفاجأهم تلك الليلة بما لم يستعدّوا له. وقد كانت أغلب أمنياتهم التي يستحضرونها مادية خالصة. وهي في عمومها تعبير عمّاهم محرومون منه في واقعهم، فهذا يريد كنزا يحوّل فقره إلى ثراء، وذلك يريد منصبا أو جاها، وآخر يتمنّى شفاء عاجلا، والأخرى تتمنّى زواجا إذا كانت عانسا، بل قد يذهب البعض إلى تخيّل طلبات مستحيلة، كأنّ يتمنّى الشيخ عودة نضارة الشباب، أو المرأة العجوز مفارقة التجاعيد وتبديلها بجمال ساحر أخّاذ. وهكذا تتعدد الانتظارات الموكولة للقدر، وينطلق كلّ مُتَمنٍ من واقع حرمانه ومن تصوره الخاص للسعادة التي يفتقدها.
وما علمت أنّ أحدا بالتحديد قد حظي بطلعة هذه الليلة التي كان ينتظرها عامة الناس، غاية ما في الأمر أنه يقال أحيانا إنّ فلانا الذي أثرى فجأة بعد فقر مدقع قد طلعت له ليلة القدر، وقد يتعمّد هذا الفلان وأمثاله نشر هذه الدعاية لتغطية سوء ما توسل به إلى الثراء المفاجئ ولإسكات ألسنة الناس الذين كانوا يسارعون إلى تصديق هذا النوع من الغيبيات.
صحيح أنّ هذه العقلية التي تبدو كاريكاتورية قد بدأت تندثر في سياق ارتقاء الوعي وتراجع الفكر الخرافي، وكم امتلأت الخرافات والحكايات القديمة بالتبدّلات السعيدة والإنجازات الخارقة التي تحصل لبعض الأبطال بطلوع ليلة القدر، أو بالعثور على خاتم سليمان، أو بتحريك مصباح سحري، أو قمقم حبس فيه جنّي طيب القلب. لكنّ هذه العقلية الانتظارية السلبية لم تختف تماما ولم ترحل نهائيا من ساحتنا العربية حيث الرغبة في الثراء السهل، والاكتفاء بانتظار من يبدّل أحوال الأمة دون عزم حقيقي على المشاركة والتخلي عن الفرجة والترقب، وكم وضع العرب آمالهم في أشخاص ظنوهم أبطالا خارقين قادرين على تحقيق انتظارات فوق الطاقة فلم يحصدوا إلاّ النكسات والخيبات المتتالية. إنّ عقلية الترقّب والانتظار بغير فعل ومبادرة لن تنتج إلا السلبية والعطالة والخمول، والتعويل على ضربة حظّ أو ضربة قدر في مغامرة أو مقامرة فيه استهانة بقدرات الإنسان واستخفاف بحكمة القدر الذي تغنّى البعض بأنّه أحمق الخطى في حين أنّ الحمق مسكنه التواكل على القدر المجهول مع العجز عن الفعل بالأسباب المعلومة.
إنّ ليلة القدر في المفهوم الإسلامي ضد عقلية الانتظار والسلبية، وهي ليست شيئا يطلع للخاملين فيحقّق لهم رغباتهم المادية الصادرة عن شهوة التملك وحبّ الإخلاد إلى الأرض. إنّها ليلة أمن وسلام من العذاب وليلة بركات معنوية وفيوضات روحانية لا علاقة لها بحطام الدنيا وتمنيات المفلسين، فهي ليست ضربة حظّ لمن ينتظر المنتظَر وغير المنتظَر، وليست تغييرا يخرج من بطن الغيب ليغيّر فجأة من لم يغيّروا ما بأنفسهم، بل هي ليلة مغفرة وعفو وسماحة، وهي ليلة الدعاء المستجاب، ولكن أي دعاء؟ إنه ليس دعاء الذهب والفضة، وكنوز سليمان، ولا دعاء الجاه والتعالي على الخلق، لأنّ جميع هذه المطالب دنيوية تزول بزوال الدنيا، بل هو دعاء العبادة والتقرّب إلى الله، فهي إطلالة فيها نسمات من المطلق وأنفاس لطيفة سارية من وراء أستار الغيب لا يعقل أن نهدرها في مطالب دنيا وأمنيات رخيصة، فلنسأل الله خيرات الأبد ونعيم الخلود، ولذلك علّمنا الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يكون من دعائنا في هذه الليلة "اللهمّ إنّك عفوّ تحبّ العفو فاعف عنّي" ومن عفا الله عنه فقد محا جميع ذنوبه ولقي الله بلا ذنب كيوم ولدته أمه.
وممّا يؤكّد أنّ الإسلام أراد أن يقصي بهذه الليلة المباركة عقلية الانتظار السلبي أنّ الله أخفاها في العشر الأواخر من رمضان، ولم يحدّدها في ليلة معلومة يترقّبها الناس، والحكمة من هذا الإخفاء اقتلاع ذهنية التواكل السهل على انتظار القدر المعلوم والمضمون، فمن أراد أن يتأكّد من أنه أدركته ليلة القدر فعليه أن يجتهد في العبادة والدعاء والقيام طيلة العشر الأواخر لا أن يفعل ذلك في ليلة واحدة لعلها تكون هي فتطلع له.
إنّ ليلة القدر لا تطلع لأحد بل هي تمرّ بالناس حتما في أواخر رمضان دون أن يعلم بها أحد، فمن كان في ليلتها قارئا للقرآن فاعلا للخير ومصليا وداعيا بإخلاص فله بإذن الله بركات العفو والمغفرة، وكأنما كتب الله له عمرا إضافيا أكثر من ألف شهر، ومن كان ساهيا غافلا أو عاصيا فقد فاته خير كثير وحمل وزرا ثقيلا غفر الله لنا وله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق