لا أحصي عدد المرّات التي سألني فيها سائل يريد أن يعرف بعض رخص العبادة المتعلقة بالسفر. وهذا النوع من السائلين لا إشكال معهم لأنّهم يريدون أن يعرفوا ما تفضّل به عليهم دينهم من مسالك التيسير التي تخفّف عنهم بعض المشقّات غير المعتادة.
ولا أحصي في المقابل عدد السائلين عن رخص السفر الذين لهم أجوبتهم الجاهزة والمثقلة بآصار التشدّد على النفس وعلى الغير، بل يسألون إمّا ليؤكّدوا ما يظنون أنّه علم عصري وصحيح يعرفونه، وإمّا ليناقشوا الجواب إذا كان مخالفا لظنهم، فهم متفيقهون يخيّل إليهم من وهمهم أنّهم يفقهون، ويتصوّرون أنّهم وحدهم يعيشون في العصر الحديث ويعرفون تغيّراته الظاهرة.
وحاصل فقههم البغيض لمن يركبون متن الأسفار أنّ تقصير الصلاة والفطر في السفر لم يعد له مبرّر معقول، لأنّ السفر في القديم كان شاقا، وسيلته القدمان، أو الجمال، أو الصافنات الجياد، أو السفن التي تتحرّك بالمجاديف المرهقة للسواعد وتدفعها أشرعتها أحيانا بما تجود به عليها الرياح المواتية من طاقة قد تفقد حتّى تسكن السفينة، وقد تصير عنيفة عاتية تهدّدها بالغرق.
تلك كانت حالة السفر قديما تلازمها المشقّة والأخطار. وهي مبيحة للفطر أثناء النهار. أمّا سفر اليوم فلا مشقّة فيه ولا نصب، ولا إرهاق فيه ولا تعب، سيارات سريعة تنهب الأرض نهبا صار أغلبها مجهّزا بالمكيّفات، وحافلات خطوط بعيدة ذوات رفاهية مريحة تتنافس في توفيرها شركات النقل، وقطارات مكّيفة تحملك إلى حيث أردت، ولك أن تستقلّ فيها الدرجة الأولى إذا أردت فائضا من رفاهة وكان دخلك يسمح لك بذلك. أمّا الطائرات فهي تحملك بسرعة إلى أيّ مكان قصيّ لم تكن ببالغه إلاّ بشق الأنفس، فهي تختصر لك المسافات وتقلّص لك الزمان، ولا تستغرق إلاّ بعض يوم، ولا تسل عن خدمات الترويح عن النفس التي توفرها لك المضيّفات اللواتي كأنّهم اللؤلؤ المنثور، فعن أيّ مشقّة تتحدّثون ! أم عن أيّ إرهاق تتكلّمون ! هل في هذا النوع العصري من السفر ما يصحّ اعتباره سببا للرخصة؟
حنانيك ورويدك أيّها المتشدّد الذي تتهم الفقهاء بالليونة الزائدة عن الحدّ، هل تظنّ أنهم يجهلون هذه الوسائل التي يستخدمونها كغيرهم من خلق الله؟ فهم مع علمهم بذلك يعرفون من رحمة ربّهم بخلقه ما غاب عن حماسك وأنت تدعو إلى إسقاط رخص السفر.
إنّ الله تعالى عندما أباح الفطر في السفر لم يربطه بعلّة المشقّة، اقرأ هذه الآية وأجب نفسك أين هي كلمة المشقّة؟ ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ (سورة البقرة: الآية 184) فالآية تذكر كلمة المشقة ولم تجعلها شرطا في السفر، بل جعلت مطلق السفر عذرا مبيحا للفطر مع وجوب القضاء في وقت آخر. والفقهاء يعرفون العلاقة بين السفر والمشقّة ويؤكّدون أنّها ليست علاقة حتمية، فليس كل سفر فيه مشقّة، وليست كلّ مشقّة سببها السفر، لذلك كانوا دقيقين جدّا حين قالوا "إنّ السفر مظنّة المشقّة" بمعنى أنه يغلب على الظنّ حصولها فيه وهي ليست ملازمة له. وهذا يعني أنّهم يعلمون أنّها مسألة نسبيّة تختلف من عصر إلى آخر، ومن شخص إلى آخر، وتغيب وتحضر بحسب تغيير الظروف والأحوال.
والتشريع أحكام دقيقة لا تبنى على الظنيات النسبية بل على الأسباب الواضحة والمعلومة التي يعرفها الناس بداهة، لذلك لم ترتبط رخصة الفطر بالمشقّة النسبية التي يختلف الناس في تقديرها وارتبطت بالسفر الذي يعرفه الناس بلا اختلاف، فهو –أي السفر- كما يقول الفقهاء، وصف ظاهر منضبط أناط به الشارع حكم الرخصة.
فاحذر أيّها المتشدّد أن تكون بقولك ممن يتهمون ربّك أنه عندما أباح الفطر في السفر قديما لم يكن يعلم أنّ وسائل السفر ستتطور حديثا. إنّه عليم بكل شيء لكنّه سكت عن كثير من الأشياء رحمة بنا من غير نسيان.
ثمّ فكّر معي قليلا هل كل السفر قديما متعب؟ فما الذي كان يمنع المسافر على راحلة أن ينيخها متى شاء تحت فيء شجرة وارفة، وما الذي كان يمنع الناس قديما من التخطيط لمراحل سفرهم بما لا يرهقهم ويحوّله إلى سياحة رائقة على مهل تمنعنا منها اليوم وسائلنا السريعة.
وفكّر في عكس ذلك أيضا هل كلّ السفر حديثا مريح؟ فلا تسأل عن الإرهاق إذا سافرت إلى مدينة بعيدة لا تعرف فيها صديقا لقضاء بعض الشؤون تدفعك الإدارة إلى الإدارة ويرسلك المكتب إلى المكتب، والحرّ شديد، والتاكسيات محجوزة، والتنقل صعب. ولا تسأل عن الإرهاق وأنت تنتظر واقفا جائعا تبلع ريقك فتجده جافا من شدّة العطش في صف طويل حركته أبطأ من حركة السلحفاة بسبب تعقيد إجراءات السفر وكثرة المسافرين أو تقديم دور بعض المقرّبين من المحظوظين...
فالمسألة نسبية والسفر مهما كانت وسيلته إذا كان مباحا هو سبب للرخصة...
ولكن قال تعالى ﴿ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ (سورة البقرة: الآية 184) فالمفطر يحرم من جوّ رمضان ومن فرحة الفطر عند المغرب، وهو حين يقضي صومه خارج رمضان قد يشتدّ عليه الأمر لأنه يصوم والناس مفطرون.
فما قلناه سابقا هو تقرير للمبدأ ولأصل الحكم. أما عند التنفيذ فالصوم أولى لمن يقدر عليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق