لا أحصي عدد المرات التي استوقفني فيها أحدهم ممن أعرف ولا أعرف وهو يراني مسرعا نحو مقصدي قائلا : من فضلك فتوى على الطائر. أما المكالمات الهاتفية على رقمي الخاصّ، فهي كثيرة إلى حدّ الإحراج، حتّى أنّي أصبحت أعجب من هذا الزمن الذي صارت تطلب فيه الفتاوى على الطائر وكأنّها وجبات غذائية سريعة تستهلك وقوفا أو على قارعة الطريق. ولا تسل عن الفتاوى الهوائية المتطايرة عبر القنوات الفضائية ذوات التوجّهات المختلفة.
إنّ سؤال الناس عن أمر دينهم ظاهرة صحية في حدّ ذاتها تدل على رغبة في الالتزام بأمر الله ونهيه، لكنّ هذه الظاهرة تضخّمت بغير ضوابط واضحة حتى صارت فوضى يتيه في دروبها الحليم ويزداد فيها الحيران حيرة. وأسباب هذه الفوضى كثيرة منها تشظّي المرجعية العلمية، وكثرة الدخلاء المتجرّئين عل الفقه الذي لا يفقهونه، ونقصان مخافة الله تعالى عند النطق بحكم يوقّع فيه المتكلم عن ربّ العالمين، والميل إلى إرضاء رغبات السائلين الباحثين عن الحيل أو المخارج الشرعية. إلى جانب نزعة التشدّد المفرطة التي تعسّر عل الناس دينهم الذي يسّره الله لهم، وتضيّق عليهم المباحات الواسعة وتضخّم لهم المحرّمات المعدودة. هذا مع تسرّع في الجواب قد يفرضه إلحاح السائلين، حتّى أنّ أحدهم ليبادر إلى الفتوى مسرعا في مسألة لو سئل عن مثلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها الصحابة يستشيرهم.
وبما أنّني ممن ابتلاهم الله بأن يقصده الناس للسؤال فإني خبرت أنواع السائلين، فمنهم من يسأل قصد الاختبار فقط، لأنّه يعلم جوابا سمعه في فضائية أو قرأه في كتاب، أو سأل عنه آخر. ومنهم من يريد أن يناقش، وفيهم من يسأل وله انتظار محدد يترقبه يريد أن تجد له مخرجا معيّنا أو أن تبرّر له تصرفا قام به، فإذا سايرته وتأوّلت له جوابا كنت في نظره عالما علاّمة حبرا فهامة، أمّا إذا لم تجامله وصارحته بالحق الذي تراه فإنّه يزدريك ويستنقص علمك، وينقلب على عقبيه باحثا عن غيرك ممن قد يتطوعون لإفساد آخرته من أجل دنياه. وفي الناس –وهم الفئة الأكثر- من يسأل صادقا يريد أن يعرف حكم الله في مسألته.
ورمضان شهر تكثر فيه الفتاوى الرمضانية في خصوص عدّة مسائل، مثل المرض، والسفر، والسباحة، والفدية، والكفارة، والمرضع، والحامل، والنفساء، والحقن، والأكل سهوا وغير ذلك، وللمفتين بعلم وغير علم مذاهب شتّى واختيارات متعدّدة في المسائل الرمضانية وغيرها. وكلما كثر المفتون ازدادت حيرة السائلين.
ولقد ظهرت فتاوى غريبة اعتبرت فضائح شهّرت بها وسائل الإعلام، واتخذها البعض ذريعة للسخرية من الإسلام وأهله مثل فتوى رضاعة الكبير التي لا يصدق عليها وصف الفتوى.
وما أودّ توضيحه في هذا السياق السريع أو الطائر كالفتاوى الطائرة للاستهلاك السريع هو أنّ الأجوبة التي يقدّمها الفقهاء العلماء، أو الدعاة غير الفقهاء أو الخطباء أو من يلقبون بالمفكرين المسلمين لا تعتبر كلّها فتاوى بما فيها الأجوبة الصحيحة التي لا إشكال فيها. فعندما تخبر سائلا بأنّ تعمد القيء في نهار رمضان يفطر وأنّ غلبة القيء لا تفطر، أو عندما تبيّن له كيف يرقع الصلاة إذا سها ونحو ذلك من المسائل المعروفة فإنّ ذلك لا يعتبر فتوى بالمعنى الكامل أو المهيب للفتوى لأنّ أكثر هذه المواضيع معلومة بداهة لكل من له إطلاع يسير على الفقه، وقد يصدق على الأجوبة في مثل هذه الحالات أنّها مجرّد تعليم لمن لا يعلم. أمّا الأجوبة التي تقال بمحض الفكر وبلا دليل شرعي فلا علاقة لها بالعلم ولا بالفقه والفتاوى من قريب أو بعيد.
إذا تجاوزنا الفتاوى المتعلقة بالشأن العام فإن فتوى السائلين جواب فقهي عن نازلة مخصوصة لها حيثياتها الخاصة بالسائل، وهي تتطلب اجتهادا تطبيقيا على الأقلّ في غياب الاجتهاد المطلق، أو اجتهادا يطلق عليه مصطلح "تحقيق المناط" بحيث يتحرّى المفتي أن يكون جوابه مطابقا لخصوصيات النازلة وبيئة السائل وأعراف بلاده ونحو ذلك مما يعرفه المحققون. وهذا النوع من الفتاوى ليس عاما. ولا ينبغي أن يكون طائرا على هواء الفضائيات أو هواها، لأنه ليس أصلا يقاس عليه غيره. فكثيرا ما يُسأل داعية متشدّد ومتمسك بمذهب لا يرى الحق في سواه فيجيب وكأنه يخاطب أهل بلده مع أنّ السائل من تونس أو من المغرب العربي عموما، فلا يراعي خصوصيات البيئة العلمية والمرجعية الفقهية والمالكية لهذا السائل ويجيبه جوابا قطعيّا واحدا لا جدال فيه رغم أنّ الذي عليه العمل بالمغرب مخالف لذلك الجواب، فيتقبّل السائل كلامه بمهابة لا تردّد فيها. وقد كان الأولى بالمجيب العارف ببلد السائل أن يذكر له أكثر من قول على الأقل، أو أن يقول له اسأل علماء بلدك فهم أدرى بذلك، خصوصا وهو يعلم أنّ مالكا رفض أن يعمّم الخليفة العباسي فقهه على جميع الأمصار الإسلامية لأنّه كان يحترم خصوصيات فقه كل بلد.
وما أختم به قولي في هذا الموضوع الطويل والشائك هو نصيحة لطيفة للمستفتين من تونس ومن المغرب العربي عموما أن يثقوا في علماء بلدانهم مع احترامهم للمذاهب الأخرى دون تعصّب، فالمغرب العربي وريث فقه المدينة والحجاز، وله تراث اجتهادي ووسطي معروف لا يليق بنا إهماله وعدم تفعيله، وينبغي مع ذلك مراعاة الخلاف الذي له حظّ من النظر، ومراعاة مستحدثات العصر من غير جمود ولا ميوعة، ومن غير تعصّب بغيض أو إفراط وتفريط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق