نسبية الزمن الرمضاني

قال لي أحد المقرّبين بالمعنيين النَّسَبي والقلبي، أو قل القلبي والقالبي : لماذا لا تخرج في ورقتك عن جوّ رمضان؟ ولقد هممت أن أطاوعه في مراودته اللطيفة لولا أن تذكرت برهان ربّي في رمضان. وهو في الحقيقة برهان مركّب من براهين: أحدها أنّ ملحق الجريدة رمضانيّ، وثانيها أنّ العنوان العام للركن "بركة رمضان" فالجريدة أحسن مثوى قلمي ببركة رمضان، لذلك قدّرت أنني لو حوّلت الهمّ إلى فعل لكنت من الجاحدين. وبما أنّي أريد أن أكون من المحسنين بقدر طاقتي فقد قررت أن لا أخرج عن رمضان إلا إذا خرج رمضان نفسه. أما البرهان الأكبر الذي يشدّ قلمي إلى رمضان فهو أنّ زمن هذا الشهر استثنائي، فهو فرصة اقتطعها لنا الرحمان من رتابة أيامنا المعتادة لا يليق بنا أن نتركها لغيرها. إنّه زمن مبارك يتغير فيه طعم الحياة، حتى المآكل والمشارب يتغير مذاقها نحو الأفضل خاصة بعد طول نهار الجوع والعطش. بل يتغيّر فيه طعم الكتابة والقراءة، وحتى روائح أفواهنا الجافة التي سماها النبي صلّى الله عليه وسلم "الخلوف" تتغير في موازين الله تعالى إذ تعتبر عنده أطيب من ريح المسلك.

صحيح أنّ زمن رمضان بمقاييس الساعات والثواني التي اصطناعها لا يختلف في ذاته عن أزمنة الشهور الأخرى، لكن لا ينبغي أن ننسى أنّ الزمن نسبيّ. فإذا تجاوزنا الكلام على النسبية العامة التي اكتشفها آينشتاين ولا أفهمها كثيرا فإنّ النّسبية الخاصة للزمن لا يكاد يجهلها أحد، ومع أنّ أغلب الناس –وأنا منهم- لا يستطيعون تفسيرها بقواعد العقل المنطقي أو بالمعادلات الرياضية فهم يعيشونها شعوريا في خاصة أنفسهم. فليس زمن الفرح والسرور كزمن القلق والضجر، إنّ الأوّل يمرّ سريعا ويفلت منّا هاربا كأننا لم نعشه إلاّ لحظات قليلة تقارب العدم، أما الثاني فيتثاقل كأنه واقف لا يتحرّك، والفارق بين الزمنين هو فارق شعور لا فرق حسابيّ.

وقديما قال الشاعر:

مرّت سنين بالوصال وبالهنا فكأنّها من قصرها أيّــام

ثمّ انثنت أيــام هجر بعـــــدهـــا فكأنّها من طولها أعوام

ومازالت أذكر من أيام الدراسة كيف كانت تمرّ عليّ حصّة الرياضات ثقيلة طويلة خلافا لحصة العربية والمواد الأدبية بصفة عامة. وهذا الاختلاف سببه اختلاف الناس في الميول، وهذه النسبية ساحتها الشعور، فحين نضجر أو نخاف أو ننتظر نتيجة امتحان صعب وحاسم مثلا يصير الزمن أطول من ذاته، ونتمنّى لو امتلكنا القدرة على دفعه، وحين نكون في حالة فرح ونحن نمارس فعلا نحبّه نتمنّى أن نمسك الزمن المسرع الذي نظن أنه صار أقصر من ذاته.

والزمن الرمضانيّ قد نشعر به بطيئا في البدايات لأنّ الصوم في الأيام الأولى كأنّه صدمة للجسد الذي نرغمه على تغيير الاستجابة لطلباته، لكنّ إرادتنا بمرور الأيّام تتعود تدريجيا على الحرمان، فيتناقص شعورنا ببطء الزمن حتى إذا تجاوزنا نصف رمضان وجاءت العشر الأواخر انتابنا إحساس بأنّ أيّام الصيام صارت أسرع من سابقاتها، وامتلكنا شعور مزدوج يجمع بين الحزن على فراق أيام رمضان والفرح باقتراب العيد.

وكلّ منّا له نسبيته الخاصة في رمضان حتى أنه يمكن ابتداع علم مخصوص نسميه "علم نسبية الزمن الرمضاني". فالذي يجتهد في الصعود إلى مراقي التقوى ويمارس العبادات حبّا في الله ويصوم إيمانا واحتسابا يمرّ عليه زمن رمضان كنسيم الربيع فوق الربى ويحزن لفراقه شعورا منه بأنه خرج من تحت مظلة البركة، لذلك تجده يجتهد في صيام الأيام المباركة خارجه مثل ستّ من شوال وغيرها. أمّا الذي لا يعرف الصوم إلا في رمضان ويصومه كرها خوفا من العذاب المحتمل أو عادة لمسايرة المجتمع فإنّ الزمن الرمضاني يكون ثقيل الوقع عليه حتّى أنّه قد لا يخفي تذمّره منه.

ثم إنّ وقع الزمن على الصائم العامل ليس كوقعه على الصائم الذي لا عمل له أو في رخصة وعطلة، وليس الذي يعمل في إدارة مكيّفة كالذي يعمل في جوّ حارّ. والفرق واضح بين النؤوم الذي يستيقظ قبيل المغرب والذي يكون مستيقظا في النهار لأسباب مختلفة. ومع أنّ الجميع يصدق عليهم فقهيّا أنّهم صائمون فإنّ وقع الزمن الرمضاني عليهم نسبيّ ومختلف، لذلك تتفاوت نسبهم من الأجر والثواب، والحاصل أنّ الأجر على قدر التعب والنصب، وعلى قدر الشعور بلذّة الطاعة.

وتتعدّد النسبيات بحيث يعسر إحصاؤها، ولكن خذ مثلا آخر صلاة التراويح، فإنك ترى البعض يؤدونها بصعوبة لأنها تطول عليهم لأسباب عدة إما بسبب الحرارة وقلة فعالية المكيفات نظرا لازدحام المسجد، وإمّا لأنّ قراءة الإمام غير جميلة أو بطيئة، وإمّا لغياب الخشوع وعدم الفهم لما يُتلى، لذلك تجدهم ينتظرون التسليمة الأخيرة بفارغ صبر. وتجد آخرين لا يستثقلون طول زمن هذه الصلاة لأسباب مختلفة هي عكس الأسباب السابقة مثل حسن قراءة الإمام ونحو ذلك...

وهناك من يعزّ عليهم ذلك لأنّه سيقطع عنهم تجارتهم الرمضانية الرابحة...

ولنسبية الزّمن الرمضاني أبعاد أخرى تتجاوز ألف شهر، بل تتجاوز الأعمار وتخترق التاريخ، تحتاج منّا إلى وقفة أخرى إن شاء الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق