يأبى الصوم أن يكون إلا لله

لا يكون العلم علما قي عرف المتخصّصين إلا بشروط يعرفونها، منها التصنيف والتقسيم قصد ترتيب المعلومات وتنظيمها في أنساق واضحة قابلة للبحث والتحليل.

لكنّ التصنيفات التي يصطنعها أهل الاختصاص قد تربك وحدة الموضوع وترتكب في حقه محظورات فيها تعسّف على واقعيته الحميمة، مثل التقسيمات التي يخضع لها الإنسان عندما تدرسه علوم كثيرة من زوايا متعدّدة تشظّي وحدته فيصير إنسانات في إنسان، ومع ذلك فبما أنّ الدراسة العلمية ضرورة لازمة فإنّ الضرورات تبيح المحظورات، ولا مشاحة في الاصطلاح.

ومن التقسيمات الرائجة في الدراسات الفقهية تقسيم العبادات إلى عبادات بدنية كالصلاة والصوم، وعبادات مالية كالزكاة والأضحية، وأخرى تجمع يبن بذل المال وجهد البدن كالحجّ.

ورغم أنّ هذا التقسيم له بعد إجرائي تترتب عليه أحكام فصّلها الفقهاء فهو من حيث جوهر العبادة لا يخلو من تعسّف فرصته آليات التحليل العلميّ، لأنه يكاد يجرد العبادات من بعدها الروحي. وعندما نأخذ عبادة الصوم مثلا نجد أنّ هذا التقسيم ينطبق عليها من حيث المظهر، لأنّه عبادة يكابدها البدن فيمتنع عن تناول ما لذّ وطاب مما هو مباح في نهار رمضان، وترتفع درجات المكابدة عندما يكون هذا الامتناع في فصل الحرارة الفائقة. لكنّ هذا الامتناع الظاهريّ تكمن خلفه نيّة لأنّ الأعمال بالنيات. والنّية إرادة جازمة تقهر أقوى رغبات البدن إلى حين، وتروّضها على تغيير مواعيد الأكل والشرب، وبذلك يثبت الإنسان أنّه ليس عبدا ذلولا للشهوة يستجيب لها عند كلّ طلب، بل هو عبد لله يستجيب لأمره قبل أمرها، وهو سيّد لطلبات الجسد يوقفها متى شاء، وينفذ لها مطالبها الملحّة متى شاء.

وبهذا يكون الصوم عبادة باطنية ساحتها الأولى الإيمان والصبر والعزيمة، أما ظاهرها ففعل سلبي يمتنع به الجسد عن تناول ما يشتهيه امتناعا مؤقتا. ولولا الإرادة الباطنية ما كانت عبادة البدن الظاهرة، فالنيّة الداخلية هي الأصل والحرمان الجسدي المؤقت فرع تابع.

لذلك قال الله تعالى في الحديث القدسي كما رواه البخاري "كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".

عندما يقول لنا ربّ العزّة : إلا الصوم فإنه لي، فذلك لا يعني أنّ العبادات الأخرى ليست لله عزّ وجلّ، فالعبادة لا يصدق عليها هذا الوصف إلا إذا كانت خالصة لربّ العالمين. وإنما المقصد من ذلك إعطاء عبادة الصوم امتياز تتفوق به على غيرها، فالصوم "لا عِدْل له" في رواية و"لا مثل له" في رواية أخرى. وكما أنّ الله تعالى لا عدل له ولا مثيل في الوجود فكذلك الصوم لا عدل له ولا مثيل في العبادات.

فلم يصف الله تعالى عبادة أخرى بمثل هذا الوصف، ومن أسباب ذلك أنّ العبادات الأخرى قد ينقصها الإخلاص أو يشوبها الرياء والتظاهر، أما الصوم فهو محصّن ضدّ هذين الخللين، فلا يدخل الرياء ساحته لأنّ صيام عامة الناس لا يعطي لصائم تميزا دون صائم، ولا يحق لأحد أن يزايد على أحد بصومه في رمضان، فالناس يتفاوتون مثلا في النوافل والتراويح وقيام الليل، وذلك يمكن أن يدخله الرياء، لكنّ الصائمين في رمضان متساوون في ذلك. وبهذا كان الصوم محميا من هذه الآفة التي تمحق الثواب.

وشرط قبول العبادة الإخلاص لله وحده ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ (سورة البينة: الآية 5) فكل عبادة يغيب عنها الإخلاص هي على شفا جرف هار، أمّا الصوم فهو يستند إلى ركن شديد من الإخلاص الذي لا يفارقه، لأنّ الصائم يتخلى عن شهواته في خاصة نفسه حيث لا يراه أحد، فهو عندما يمتنع عن طعام يدفعه إليه الجوع وهو في بيته، وعندما يحبس نفسه عن الشرب رغم العطش وهو وحيد لا يجالسه أحد، إنّما يفعل ذلك لله وحده، لأنه يشعر أنه يراقبه وأنه معه حيثما كان ويحصي عليه أعماله. فعبادة كهذه لا تكون إلا لله لأنها قائمة على الالتزام الذاتي في السرّ بقطع النظر عن الالتزام الظاهر في العلن الذي لا يفخر به أحد على أحد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق