ليس هذا العنوان لغزا بالنسبة إلى من يفهم منطق الحسنات والسيّئات، فالمسلم يؤمن أنه ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ (سورة ق: الآية 18) أي إنّ هناك ملائكة تكتب أعمالنا وتحصيها علينا، وهم حفظة أمناء يكتبون كلّ ما نقول ونعمل، فنحن في الحقيقة الذين نملي عليهم ما يسطرون، وكأنّ ألسنتنا أقلامهم، وريقنا مدادهم. والكتاب الذي يكتبونه هو كتابنا، ونحن الذين سنأخذه يوم تتطاير الصّحف بأيماننا أو من وراء ظهورنا عن شمائلنا. ونحن الذين سنقرأ ما فيه كما قال تعالى ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ (سورة الإسراء: الآية 14).
وعندما توضع موازين القسط يوم القيامة فالغلبة تكون للجانب الذي يثقل ويرجح، جانب الحسنات أو جانب السيّئات. ونحن في فسحة الحياة نعيش تنافسا كبيرا بين الخير والشر الذي فينا ومن حولنا، ونشهد معركة شرسة بينهما، ولكلّ منها جنوده وبواعثه، فالخير جنوده الإيمان، والعبادات، والفطرة الأصيلة، والعقل السليم، وغيرها، والشرّ جنوده الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء، والمغريات وغيرها.
ومن رحمة الله بنا أنّه لم يجعل هذا التنافس بين متساويين في القيمة، بل ساعدنا فيه ومنحنا فائضا من التشجيع إذ أعطى الحسنات امتيازا ذاتيا يجعل فوزها على السيّئات أمرا يسيرا، فالسيّئة تكتبها الملائكة بمثلها فهي إن شئنا التعبير ضاربها واحد فقط، وهو ضعيف التأثير. أمّا الحسنة فضاربها مرتفع لأنّها بعشرة أمثالها. وهكذا يسّر علينا ربّنا سبيل التنافس منذ المنطلق إذ جعله غير متكافئ بسبب قوّة الدفع العشرية التي منحها للحسنات.
ولكن، يبدو مع ذلك أنّ كثيرا من الناس مرشّحون للهزيمة في هذا السباق غير المتكافئ لصالحهم، وقد قال بعض العلماء "ويل لمن غلبت آحاده عشراته" فالعجب كل العجب أن يغلب وزن خفيف من هو أثقل منه بعشر مرات، والغريب أن تأكل البقرات العجاف البقرات السمان...
إنّ ابن آدم خطّاء لكن ربّه فتح له أبواب التوبة والإصلاح فجعل الحسنات قادرة على محو السيئات بسهولة قال تعالى ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ (سورة هود: الآية 114).
أمّا في رمضان فتسهيلات الفوز في هذه المعركة تتضاعف لأنّ السباق تزداد فيه فوارق القوّة بين الحسنات والسيّئات، فالآحاد تبقى آحادا، أمّا العشرات فيأتيها المدد من بركات الزمن الرمضاني، إذ تصير قيمة النافلة معادلة لقيمة الفريضة، وتصير قيمة الفريضة بسبعين، أمّا إذا أدّيت الفريضة في جماعة كصلاة العشاء وغيرها فاضرب السبعين في سبع وعشرين، ولا تسل عن قيمة الصدقات والإنفاق في سبيل الله فهي تتضاعف إلى السبعمائة وأكثر كما قال تعالى ﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ (سورة البقرة : الآية 261) ومن صلّى التراويح في جماعة له ثواب قيام الليل كلّه.
فهل بعد هذا الفيض العميم من الحسنات المتراكمة يسمح الصائم لنفسه بالهزيمة في وجه آحاد وهو مدعّم بسلاح كاسح للذنوب ومدمّر للآثام قوّته تقاس بالسبعينات والمائات !
ما أيسر دخول الجنّة بهذه الطريقة، لأنّه لا يخسر في هذا السباق إلاّ بائس تعيس الحظ يأبى الفلاح الذي جاءه طائعا سائغا للفائزين، لذلك لمّا قال جبريل "بَعُدَ من أدركه رمضان فلم يغفر له" قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم "آمين" (رواه الحاكم).
ومع ذلك فمن ينظر إلى الواقع يقول : ما أيسر الهزيمة في هذه المعركة السهلة ! لأنّنا كثيرا ما ننفق حسناتنا بسخاء ونتسابق إلى إهلاكها بالسيّئات، فماذا تقول مثلا في أحدنا: ما إن يخرج من صلاة التراويح مثقّلا بالحسنات حتّى ينفقها في جلسة بالمقهى أو غيرها تطول فيها الثرثرة ويكثر فيها "التقطيع والتّرييش".
نسألك اللّهم العفو، وأن تساعدنا عل ادّخار حسناتنا إلى الآخرة حتّى لا ننفقها بسخاء يفوق السخاء الذي ننفق به نقودنا التي تفرّ من جيوبنا في رمضان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق