التعليم هو البوابة الكبرى لنهضة المجتمع

غير خاف أنّ التعليم هو البوابة الكبرى لنهضة المجتمع، لأنّه هو المعبر الأساسيّ للوعي الثقافي وللمعرفة العلمية المثمرة، ولتخريج العناصر الفاعلة في التنمية الحضارية الشاملة. لهذا صارت الدول الحديثة تحرص على بلورة سياستها التعليمية بنفس حرصها على تخطيط مشاريعها التنموية. وذلك لأنّ التعليم ليس مجرد معرفة عملية متخصّصة ومحايدة تكتفي بتخريج أدمغة في شتّى العلوم الموصوفة حسب الشائع بأنّها صحيحة، أو بتزويد المجتمع بأعداد من الخبراء والتقنيين من أصحاب الشهادات ذوي الكفاءة العالية، فهذا أمر ضروريّ في كلّ نظام تعليمي بمختلف مستوياته، وليس موضوعا للخلاف أو المزايدة، بل التعليم إلى جانب ذلك تربية وتثقيف وتنشئة اجتماعية رشيدة، ورؤية للكون، وتصوّر للإنسان، وفلسفة في الحياة، ومقاصد حضارية، وغير ذلك مما يدخل في إطار وعي الإنسان بتراثه وفهمه لحاضره واستشرافه لمستقبله.

وإذا أردنا أن نطبّق هذا الكلام العام على وضعية التعليم في عهد النظام السابق فإننا نجد كلاما أجمل منه وأشمل في خطابات إصلاح التعليم وديباجات البرامج، لكنّ ما أنجز آنذاك تحت شعار الإصلاح والتطوير كان في عمومه إسقاطات نازلة من أعالي هرم السلطة لتلميع صورة النظام، وتجفيف منابع الهوية، وتسويق خطاب حداثيّ في الداخل والخارج ليس له من الحداثة إلا الصورة البراقة، والمظهر الدعائيّ الذي يسحر أعين الناس.

ومن بين المظاهر التعليمية التي كانت تصاحب كل توجّه تعليمي جديد وصفه بأنّه إصلاح شامل سيسهم في التنمية بنجاعة باهرة، وسيؤسّس مجتمع المعرفة، وسيجعل تونس الغد رائدة في مسار الحداثة وزمن العولمة، وذلك بفضل الاختيارات الفوقية الحكيمة التي تهدف إلى ترسيخ الإبداع، وحرية البحث والتفكير وغير ذلك مما حفظناه حتّى مللناه لكثرة ما كرّر علينا وكرّرناه في لحظات إحسان الظنّ بما كان يقال.

ومن أساليب التلميع والتسويق أنّ إقرار التوجهات التعليمية كان يقع تحت غطاء تشاوري ديمقراطيّ يقطر شفافية مظهرية مثل أسلوب الانتخابات السياسية الذي يعلم الجميع الفرق بين مظهره وحقيقته. فما إن تختار الدوائر العليا والحكيمة دائما خطوة "إصلاحية !". حتى يقع الإعلان عن مشاورات موسعة وحرّة ويشارك فيها أطراف العمليّة التربويّة. لكنّ هذه المشاورات كانت تنتهي دائما بالموافقة على الاختيار الفوقي وتثمينه. ثمّ يقع تبنّيه من الهرم الأعلى وكأنّه منحة سلطانية من صاحب الفضل والمنّة الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فإذا ظهرت بعد ذلك عيوب بيّنة بذاتها فإنّ اللوم ولا ينصّب على الاختيار الحكيم، بل على كوادر الإشراف  على التطبيق أو على المربّين أو العقلية السائدة، أو البنية التحتيّة ونحو ذلك. وعندئذ يأتي التدخّل الفوقي مجدّدا ليعيد الأمر إلى نصابه، أو ليسكت الأفواه بترقيع بعض النقائص.

والحقّ أنّ السياسة التعليمية رغم كلّ التلميعات التي كانت تصاحبها، ورغم وصفها بأنّها استجابة ضرورية لروح العصر تقتضيها التطوّرات العالمية والوطنية فقد اتسمت بكثير من الارتجال والتسرّع. وقد ظهر ذلك على الخصوص في بعض التراجعات الجزئية و في بعض مواطن التردد، مثل التقدم خطوات في تعميم المعاهد العليا لتكوين المعلمين، بل إن البرلمان أقر مشروع تطويرها لتصير مدة التكوين فيها ثلاث سنوات بدلا من سنتين، و بينما كانت اللجان الاستشارية تعدّ البرامج الخاصة بمرحلة التطوير وقع إغلاقها جميعا بقرار وزاري لأسباب لا علاقة لها بالعلم بل بهواجس تشغيلية حينية. و نظام التعليم بالكفايات الذي بذلت فيه أموال طائلة و صاحبته استشارات هي إلى الدعاية أقرب منها إلى الاستشارة لما ظهرت صعوباته الحقيقية وقع تعديله بما سمي " المقاربة بالكفايات " ثم وقع التراجع عن تطبيقه في مستوى التعليم الثانوي، و قل مثل ذلك عن التردد الذي ظهر في احداث بعض شعب الباكالوريا و بعض المناظرات مثل مناظرة التاسعة أساسي و السادسة أساسي، و الاضطراب الذي وقع في خصوص امتحان الرابعة أساسي معلوم و مشهور. و الأمثلة على التذبذب و ارتجالية القرارات كثيرة، و يظهر أنّ من أهم أسباب ذلك الحرص على ترضية الشباب و أوليائهم في إطار سياسة تلميع الصورة و ظهور النظام بمظهر الراعي المساند للشباب، و قد وقع الاعتماد في ذلك على مسار غير بيداغيّ ألبس لباسا بيداغوجيا سمّاه المنظّرون آنذاك " بيداغوجيا النجاح " وهو في حقيقته كما وصفه أحد النقاد سياسة " تنجيح " كانت تدعم أحيانا بقرارات و تنفيلات رئاسية، فالمهم بالنسبة إلى النظام السابق أن يفرح التلاميذ و الطلبة و العائلات بالنجاح في آخر السنة لأن الأفراح تلهي عن العيوب و ترضي الناس باختيارات صانع التغيير. أما المستوى العلمي لما ينبغي أن تكون عليه الشهائد فهو أمر ثانوي أمام بهجة النجاح الكثيف. و في إطار السياسة نفسها وقع تمرير نظام "إمد" بأسلوب إسقاطي مع بعض المشاورات الصورية التي كانت في حقيقتها اجتماعات دعاية و إعلام وتوضيح، و بذلك دخل التعليم الجامعي مرحلة خفّت فيها الشهادات و تحولت فيها المعاهد العليا إلى شبه تكوين مهني موجه إلى سوق شغل لا شغل فيها للمتخرجين بأعداد غفيرة في إطار بيداغوجيا النجاح أو التنجيح.

لكن تذبذب الاختيارات المرحلية و ارتجاليتها كان يقابلهما ثبات في بعض الاختيارات الاستراتيجية الكبرى، و من أهم هذه الثوابت الحرص على تغريب التعليم بدعوى الحداثة و تجفيف ينابيع الهوية الإسلامية بقيمها الأصيلة. لقد كانت المحافظة على أصالة الهوية هدفا معلنا في الديباجات الدعائية مثل التصريح بإسلامية الدولة في الدستور، لكنّ الإنجاز كان يكذّب اللافتة الإشهارية، و بيان ذلك يطول من وجوه متعددة تشمل الإعلام و البرامج، و الحرص على تمييع الشباب التلمذي تحت غطاء الأنشطة الثقافية و ما يتبعها من " بومات ". و لا يخفى على أحد ما تعرضت له مادة التربية الإسلامية من هجومات إصلاحية هاجسها الأكبر هو الخوف من هذه المادة و تخفيفها باستبعاد القضايا الجوهرية. أمّا الجامعة الزيتونية فقد صارت مجرد شبح لماضي جامع الزيتونة المجيد. و أسند أمرها إلى غير أبنائها من كليات أخرى في التخطيط و البرمجة و الإدارة و التدريس، و ليس هذا مقام تفصيل الكلام عليها، وهي اليوم تحتاج إلى أن يعود إليها اعتبارها و أن يقع إصلاحها و تطويرها تطويرا عميقا و جديا لا سطحيا و شكليا لتقوم بدورها العلمي في ترشيد الخطاب الديني، لأن تغييبها أفقد التونسيين مرجعية علمية أصيلة و جعلهم يستقون معلوماتهم الدينية من الفضائيات و غيرها من المراجع الأجنبية ذات الطابع المتشدّد.

أعلم أن كل ما قلته ليس إلا وصفا لجملة من سلبيات السياسة التعليمية، و ليس فيه اقتراحات إصلاحية و عذري في ذلك أنّ تشخيص الداء يسبق اقتراح الدواء. و لكنّ أهمّ ما أريد التركيز عليه في سياق الكلام على أصول الإصلاح هو أن يتبع فيه أسلوب التشاور الحقيقي لا الصوري، و أن يقع القطع مع أساليب الإسقاط الفوقي. فالنظام التعليمي مسؤولية وطنية جماعية. و عليه ينبغي أن يكون إصلاحه مساوقا لروح الثورة التي تعيشها تونس، و الديمقراطية التي نريدها في السياسة يجب تجسيمها في التعليم بمشاركة جميع الأطراف، و التونسيون الذين لم تخدعهم سياسات التلميع لديهم من الفطنة و القدرة على الإبداع ما يمكنهم من تحرير نظامهم التعليمي و تطويره بما يناسب مرحلتهم التي هم مقبلون عليها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق