معذورون لا يعذرون أنفسهم

عاشت أمي رحمة الله عليها وهي تعاشر مرضا يعسّر عليها الصّوم، و كان يزداد عليها شدّة كلّما تقدّمت بها السنّ، و كنت أنصحها بالفطر و أبيّن لها أنّ دين الله يسر، و أنّ الإسلام رخّص للمرضى في الإفطار، لكنّ قلبها لم يكن يطاوعها على التّخلّي عن عبادة نشأت عليها، و كانت تأبى أن تكون مستثناة من مشاركة النّاس في جوّ رمضان رغم المشقّة الزائدة التي كانت تعانيها. فإيمانها إيمان عجائز، وإرادتها كانت أقوى من طاقة بدنها المتعب. و كانت إذا استدعيت لها طبيب العائلة في الحالات الطّارئة تقول له : انصحني ماذا أفعل، فيجيبها عجبا لك كيف تسأليني، و ابنك أستاذ في الشريعة و دكتور في الفقه. لكنّها لم تكن تأخذ بنصيحتي إلاّ إذا أكرهها المرض على الإفطار، فإذا وجدت بعد ذلك بقيّة من طاقة عادت إلى الإمساك غير مقتنعة بما أقول لعدّة أسباب منها قوّة إرادتها، و منها أنّي ولدها، و الولد يبقى ولدا في نظر الأمّ مهما كانت درجته في المعرفة.

و يذكرني موقفها من فتواي بالإمام أبي حنيفة، وهو المجتهد المعروف، و صاحب المذهب الذي له صيت و انتشار بين النّاس. فقد كانت أمّه إذا أرادت أن تستفتي لا تسأله، بل ترسله إلى فقيه شيخ كانت تستفتيه مع النّاس قبل أن تلد ولدها أبا حنيفة و قبل أن يصير مجتهدا. فكان أبو حنيفة مع ذلك يتواضع و يحقّق رغبة أمّه فينقل لها حرفيّا جواب الشّيخ الذي كان يعجب لها و يستحيي من الإمام أبي حنيفة الذي يفوقه علما، لكنّ الإمام يلحّ عليه في سماع الجواب منه برّا بوالدته ولو كان الجواب مخالفا لاجتهاده.

و كنت إذا أعيتني الحيلة في إقناع والدتي برخصة الفطر ألتجئ إلى محاولة طمأنة قلبها بأن أسمعها كلام الشيوخ و الأطبّاء الذين يظهرون في التلفزة أو يتكلّمون في المذياع.

و والدتي ما هي إلاّ أنموذج لكثير من النّاس الذين لا يفهمون منطق الرخصة في شهر الصّيام، ويصرّون على مغالبة طاقة الجسد المنهك، و لا يستسلمون له إلاّ عند الانهيار الكامل.

وهؤلاء المستبسلون في معاندة سلطان المرض يخوضون معركة خاسرة لا يؤيدهم فيها الشرع وغالبا ما يخذلهم فيها البدن حين يثقل عليه الكبد فكلّ عبادة مشروطة بالاستطاعة. وليس لله حاجة في أن يعذبوا أنفسهم وهو الذي يقول في كتابه الكريم ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ (سورة البقرة: الآية 185) والرخصة فوق ذلك هدية من الله تعالى، وليس من الأدب رفض هديته اليسيرة والتّعنت بالإقبال على العزيمة حيث لا تنفع العزيمة.

ودوافع هؤلاء عديدة ومتداخلة أحيانا، فيهم من يرفض الرخصة خوفا من الله تعالى، لكنّه خوف في غير محلّه، وفيهم من يخجل من نفسه التي لا تطاوعه، أو من الناس الذين يحيطون به، وفيهم من يشقّ عليه ترك عادة الصوم التي رافقته من العمر سنين. وترى البعض من كبار السنّ يقول : كنّا نحصد القمح والشعير في وهج الشمس زمن الحرّ، لا يمنعنا من الصوم تعب ولا جوع ولا عطش، فكيف أفطر وأنا مرتاح في ظل بيتي ! أتظنّون أنّي انتهيت ! كلاّ مازالت بي قوة أتحمّل بها ما يتحمله أمثالكم، ولن أفطر ما دام عندي رمق من قدرة.

وإذا كان هؤلاء يغالبون الدين والجسد بما عندهم من العزيمة على خطإ، فإنّنا قد نلتمس لهم بعض العذر بسبب نفوسهم الأبيّة. لكن ماذا نقول في من هم على الطرف المقابل من الذين يبحثون عن الرخص بغير أعذار، ويتركون الواجب لأدنى قلق ولا أقول تعب، لا يعرفون من الإسلام إلا أنه دين يسر، يرغبون في الذي لهم ولا يهتمّون بالذي عليهم. إنّ الإسلام حين شرع الرخصة الميسّرة إنّما منحها لأصحابها المعذورين، ووضعها عند أسبابها المعقولة. أمّا أن يترخص الإنسان لأقل أمر يظنه سببا ويتمادى في ترك الواجبات باسم اليسر، فذلك دليل على غياب العزيمة رغم حضور القدرة واشتداد الساعد.

والفرق واضح بين نمطين من الناس، بعضهم يتمسك بتلابيب العزيمة رغم غياب القدرة، وبعضهم تفارقه عزيمته وهو قوي العنفوان، فلم تبلغ به نفسه مبلغ أصحاب الأعذار الذين أسقط عنهم ربّهم الواجب وهم مصرّون عليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق