قيل إنّ سبب تسمية شهر رمضان يعود إلى أنّ العرب لما أرادوا الاصطلاح على تسميته، كان الزمن صيفا قائظا. فسمّوه رمضان من الرمضاء التي هي شدّة الحرّ، و رغم أنّه يدور على كامل فصول السّنة فقد استقرّت تلك التسمية الأصلية التي صارت تلازمه ولو في الأيام التي يشتدّ بردها. و لنا أن نحمد الله على أنّه لم يفرض علينا الصيام في شهر شمسي مستقرّ زمن الرمضاء و شدّة الحرّ، و رغم أنّ ربط الصوم بشهر قمري فيه متاعب رؤية الهلال ولو في عصر تطوّر العلوم الفلكيّة فإنّ ذلك أيسر من مكابدة الصّوم في حرّ الصيف مدى الحياة. و لا شكّ أنّ فرض الصوم في شهر متحرّك عبر الفصول المتنوّعة عدالة إلهية في التّوزيع. و قد أخذنا قسطنا منذ سنوات في الصّيام أثناء شهور معتدلة الطقس طيّبة النسائم وقصيرة الأيّام، و ها هو الزمان قد استدار برمضان ليعيده إلى أصل زمن التسمية حيث شدّة الرمضاء. فرمضان في الشتاء أو الخريف مجرّد اسم رمزي قلّ أن ندرك دلالته. أمّا و نحن في صلب الصّيف فإنّ اسم رمضان صار في إحساسنا مطابقا للمسمّى "رمضان في الرمضاء".
و لا شكّ أنّ الصّيام في العطلة الصيفيّة يتطلّب قدرا كبيرا من الصّبر، و ليت الأمر كان مقتصرا على مكابدة الحرارة و نحن ننظر إلى الماء الزلال أو المشروبات التي قلّ أن تجد من يحفظ جميع أسمائها، فقد يستعان على ذلك بالمكيّفات رغم أنّها تستنزف الطّاقة و ترهق ميزانيّة المصاريف، كما قد يستعان على ذلك بالقيلولة المطوّلة خاصة بعد طول سهر غير العاملين من ذوي العطل. بل إنّ الأمر قد تجاوز ذلك إلى نوع آخر من التضحية يخفيه البعض في أنفسهم، و يتهامس به آخرون في مجالسهم، ويظهر في تصرّفات الكثيرين، وهو أنّ رمضان قد اقتحم عليهم عطلتهم و أربك مشاريعهم فيها و نخصّ بالذكر منها مشاريع الأعراس و الأفراح التي ضاقت فسحة الزمن على مواعيدها فازدحمت وتقاربت بكثافة غير معهودة...
ومع ذلك فإنّ الخير الذي يربحه المؤمن في رمضان أفضل بكثير مما يظنّ أنه قد فاته من مباهج العطلة. فرمضان شهر البركة، وأجر الصوم فيه لا يقارن بأجر سائر العبادات. وفي الحديث القدسي أنّ الله تعالى يقول "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به" وهو سبحانه يجزي به جزاء لم يطلع على مقداره الملائكة التي تكتب الأعمال، فمقياسه يفوق مقياس الحسنة بعشرة أمثلها، ويفوق السبعين ضعفا. إنه جزاء لا عِدْلَ له ولا يعلم مقداره إلاّ الله تعالى. ورمضان شهر الصبر، والصبر نصف الإيمان، وترتفع قيمة الصبر بقدر ارتفاع الجهد المبذول فيه، وبقدر أنواع الرفاهة التي يتخلّى عنها الصائم. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعائشة "أجرك على قدر نَصَبِك" أي تعبك، فارتفاع النّصَب بشارة واضحة بارتفاع الأجر، وهل يظنّ الإنسان أن يدخل جنات عرضها السموات والأرض بغير جهد ولا كلفة ! هل يظنّ أنّها سلعة رخيصة خاصة في زمن ارتفاع الأسعار ! "ألا إنّ سلعة الله غالية، ألا إنّ سلعة الله الجنة" كما قال الرسول صلّى الله عليه وسلم.
وبركات رمضان ليست آجلة في الآخرة فحسب، بل هي عاجلة في الدنيا كذلك، فلو سألت الأطباء وخبراء التّغذية لأطالوا لك القول فيما تفهمه ولا تفهمه من تفاصيل الفوائد الصحيّة، لكن حصول هذه الفوائد النظرية مشروط بأن لا نرهق أجهزتنا الهضمية عند الإفطار فنرغمها في دقائق معدودات على التهام ما لا تطيقه إلا في مواعيد متفاوتة طيلة اليوم. أما الفوائد الاجتماعية فمنها التضامن الذي يتربّع على عرش الأعمال الصالحة خاصة في هذا الشهر الذي تمارَسُ فيه ديمقراطية الشعور بالجوع والعطش في النهار رغم اختلاف محتويات الموائد عند الإفطار، والتضامن مع الفقراء من شأنه أن يمرّر شيئا من عدالة النهار إلى التفاوت الحاصل في الليل حتى يفرح الفقراء بفطرهم كما يفرح غيرهم. وفرح الصائم بفطره ممدوح في السنّة النبوية. وفي الحديث برواية الطبراني وابن حبّان أنّ "من فطّر صائما على طعام وشراب من حلال صَلّت عليه الملائكة في ساعات شهر رمضان، وصلّ عليه جبرائيل ليلة القدر" ومن يستشعر صلاة الملائكة أي دعاءها له بسبب تفطير الصائمين يهون عليه المال الذي يبذله، ويهون عليه كذلك حرّ الرّمضاء في رمضان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق