ورد في الحديث الصحيح أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلم قال "للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربّه فرح بصومه" ]رواه البخاري[
قد يسأل سائل ما دخل الصوم في الفرح؟ أليس جهدا مضنيا ترى آثار متاعبه في العيون الغائرة والوجوه الشاحبة. يهجم على الشفاه فيصيبها بالجفاف، وعلى الأفواه فيغيّر رائحتها بالخلوف، وما أكثر الناس الذين يتذمرون من طول أيام رمضان وقصر لياليه، أليس فينا من يتثاقل عليه زمن اليوم حتى يصير في وعيه أطول من ذاته، أليس فينا من يناجي الساعات اليدوية والحائطية و الخلوية كأنّه يسألها الإسراع إلى محطة الإفطار. ولا تسل عن المتكاسلين في العمل بحجة الصيام، ولا عن الذين تتشنج أعصابهم يدّعونها "رمضنة" مشروعة لا قبل لهم بردّها.
عفوا أيّها الصائمون ليس الجميع هكذا. لكنّها صورة من الواقع لا يمكن إنكارها.
ومع ذلك فإنّ الإسلام الذي يدعو الناس إلى المثل العليا واقعي في مثاليته واقعية لا تنكر بشرية الإنسان، ولا تطالبه بأن ينسلخ عنها ليماثل الملائكة الذين لا يتعبون من عبادة ربّهم.
فالصائم لا تفارقه بشريته عند صومه، وإنّما يضغط عليها صابرا يستوي في ذلك المتذمرون والمحتسبون، حتّى إذا دوّت المآذن ونطقت التلفزة أو الإذاعات بكلمة الله أكبر كان له الحقّ في أن يفرح بفطره، وهو فرح أقرّه الرسول صلّى الله عليه وسلم، إنه فرح الطبع حين يمارس طبيعته، وفرح البشرية حين تتحرر من ضغط العزيمة التي حبست عنها شهواتها.
ومما يؤكد مشروعية هذه الفرحة أن الرسول صلّى الله عليه و سلم حثّ أمّته على تعجيل الفطر بمجرد دخول وقته فقال "لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر" ]رواه مسلم [وهذا التعحيل معناه تقديمه على أداء صلا ة المغرب. ومن معاني الخيرية قي هذا التعجيل خلوّ الأمة من المتشددين على أنفسهم بغير دليل طلبا للثواب.
لكن المبادرة السريعة إلى الفطر بفرح لا تعني الانقضاض على الطعام انقضاض الطير الكاسر على فريسته. فذلك نهم مكروه واعتداء صريح على المعدة بما لا تطيقه بعد طول خواء. بل إن التدرج في تناول الطعام محمود كالتّدرج في التخطيط، ومن السنّة افتتاح الفطر بتمرات وشربة ماء لا تملأ البطن فتمنعه بعد ذلك من العشاء.
ومن مكمّلات فرحة الفطر أنّ المفطر دعوته مستجابة عند إفطاره، لذلك يستحبّ أن يقول "اللهمّ لك صمت وعلى رزقك أفطرت" ]أبو داود[ أو يقول "ذهب الظمأ، وابتلت العروق، ثبت الأجر إن شاء الله" ]أبو داود[ فانظر إلى الجمع الجميل بين الأجر والاستجابة لطلبات الجسد.
هذا عن الفرحة الأولى، وهي فرحة الفطر بعد حبس الطبيعة عن رغبتها.
أمّا الفرحة الثانية فهي فرحة الروح بانتصارها في معركة الغريزة، وفرحة اللقاء الأكبر مع الله تعالى عند الجزاء حيث يسأل المرء عمّا قدّم وأخّر. وفي أعمال الإنسان عند الحساب ما يسرّ وما يحزن. ومن أعظم الأعمال التي تفرح ويغطي أجرها كثيرا من السيئات المحزنة عبادة الصوم، حيث يفرح الصائم بنتيجة صبره فيثقل بذلك ميزانه من الحسنات ويفرح به ربّه كما تفرح به ملائكة الأرض والسماء. وذلك لأنه نجح في امتحان الإرادة. وتخلّى مؤقتا عن شهوة البدن إرضاء لربّه وآثر الآجل على العاجل، وعرف كيف يروّض غريزته بالصبر الذي هو نصف الإيمان فطوبى للصائم بفرحتيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق