إنّ رمضان الذي يظلنا شهر مبارك كما بشّرنا الحبيب المصطفى، وقد أنزل الله فيه القرآن المبارك، وفيه ليلة مباركة هي ليلة القدر تتجاوز بركاتها قدر البركات التي يمكن أن توجد في أكثر من ألف شهر.
فنحن في زمن استثنائي بالمقاييس الدينية الظاهرة والخفية، وبالمقاييس الحياتية التي نتفطن إليها أو نهملها. ومن منّا لا يعي أنّه في شهر ليس له نظير في إخوته من الشهور، و أسباب هذا الوعي عديدة منها هذه البركة التي تكلمت عليها نصوصنا الدينية.
ولكن، ما البركة؟
لا شك أنّ سياقها الدلالي الذي يتبادر إلى الأذهان محاط بهالة من الخير والبرّ والصلاح، فهي معنى ممزوج بالقداسة ويأبى الذهن أن يخدش صفاءه بما دون ذلك من الحسابات المادية المحسوسة، أو المعاني المضادّة للخير والفلاح والغفران.
أما المعنى المحدد لهذا المفهوم المحبب إلى قلوب المؤمنين فهو الزيادة والكثرة والوفرة والخير العميم. وليس من الضروري أن تكون هذه الزيادة ظاهرة أو معلومة الأسباب وقابلة للتفسير بمنطق الأشياء المعتادة، بل هي زيادة خفيفة لها وجه غيبي موكل إلى الله تعالى وقد تبرز لها واجهة ظاهرة يمكن أن نلاحظها في بعض النتائج.
ومن التجليات الخفية للبركة التي يبشرنا بها رسولنا الكريم أن أجور الأعمال تتضاعف في رمضان، فأجر الفريضة يصير سبعين بعد أن كان عشرة، وأجر النافلة فيه يصير كأجر الفريضة في غيره من الشهور، وأجر الصدقات وإطعام الطعام وتفطير الصائمين يرتفع إلى درجات تجعل الملائكة تصلّي على من يفعل ذلك ومعهم جبريل عليه السلام.
وإذا نظرنا إلى الرزق المادي الملموس فإن البركة تجعل طعام الواحد يكفي الإثنين، ثم أليس رزق الفقراء في هذا الشهر بركة تأتيهم من المتضامنين الذين يرقّق الله قلوبهم فيبذلون ما لذّ وطاب بسخاء.
ومن مظاهر البركة إقبال الكثيرين على العبادة، وعلى قراءة القرآن، وصلاة التراويح، وسائر أعمال البرّ.
ومن مظاهر البركة أو الزيادة في الرزق توفر ما لذّ وطاب من المطعومات في السوق بكميات تفوق ما يتوفّر في الشهور الأخرى، فيستخرج المخزون، ويستورد المفقود، وتنشط حركة البيع والشراء وترتفع درجات حرارة الاستهلاك. ومن عجائب البركة أنّ ميزانية العائلة تصير بقدرة قادر قادرة على توفير نفقات ما تحتاجه وما لا تحتاجه مما تشتهيه ويكون مصيره مصبّات القمامة، حتى صار رمضان الذي هو شهر العبادة شهر الإفراط في الاستهلاك تحت عدة مبررات منها مبرر البركة.
وأخشى ما نخشاه أن يفسد علينا الباعة بركة الرزق أي زيادته ببركة مضادة هي الزيادة في الأسعار التي تتم ببركة الإفلات من عيون الرقابة.
ومن معاني البركة كثرة الحركة التي هي زيادتها، وبها يزيد الإنتاج. لكنّ الذي نلحظه أنّ البركة كأنّها لا تعترف بساحة الحركة والعمل، لأنّ كثرة من الصائمين تقلّ حركتهم، وتتثاقل خطواتهم، ويسكنهم الكسل، ويهجم عليهم التثاؤب، فيتحرّكون إن تحركوا باقتصاد في الطاقة تعلوهم كآبة غير خافية كأنّهم يحملون هموم الدنيا.
وليس لبركة رمضان ذنب في ذلك، فهي خير محض كما قلنا، وإنّما الذنب ذنبنا عندما نجهل مكان البركة الحقة. والذنب طول السهر في الليل بغير حساب سبحات العمل في النهار. وقد يكون ذنب صعوبة التخلي عن كثير من العادات كعادة التدخين ونحوها.
فاللهم بارك لنا في أجر رمضان، وفي رزق رمضان، وفي الحركة التي ينبغي أن نمارسها في رمضان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق