لا نقصد بالتكيّف أو التكييف تلك الفتوى التي أباح فيها أحدهم التكيّف أي التدخين في نهار رمضان، فهي فتوى صادرة عن غير أهلها، وأخذت اسم الفتوى من غير استحقاق، بل هي بدعة لا ينكرها الدين فقط، وإنّما ينكرها الطبّ، وتمنعها الإجراءات بل التشريعات التي تهتم بصحّة المواطنين وتسعى إلى المحافظة على نقاوة البيئة والهواء خاصّة في أماكن التجمّعات. وكلام صاحبها يدخل في المضحكات المبكيات ولا علاقة له بالشرعيات التي كثر المتطفّلون على الكلام فيها.
الذي نقصده بالتكيّف هو أنّ رمضان المبارك يقتحم علينا رتابة الحياة المعتادة طيلة الشهور العادية فيدخل عليها تغيّرات عميقة تدفعنا إلى التكيّف معها. وهذه إحدى فوائد رمضان، فهو ينتشلنا من أسر "الروتين" ويحرّرنا من دوّامة العادات اليومية حسنِها وسيّئِها. حتى العادات الحسنة تصير مملة بكثرة التكرار. فهو رجّة روحية من شأنها لو أخذناها بقوّة وحزم أن ترتفع بنا إلى آفاق الملإ الأعلى، وهو رجّة جسدية تذكرنا أنّ لنا شهوات تركناها طيلة السنة على سجيّتها تقودنا حيث أرادت، وأنّه لا بد من وقفة نثبت فيها أننا أسياد لها ينبغي أن تخضع لأوامرنا وأن تكون تحت رهن إرادتنا. وهو أي رمضان هزّة اجتماعية تغيّر نسق الحياة في الأسرة والمجتمع وترغمنا على أن نكيّف سلوكنا حسب إيقاعها الجديد.
تتغير مواعيد الأكل الثلاثية فتصير ثنائية: إفطار وسحور. ونتخلّى عن الثرثرة الصباحية الخفيفة في المقهى قبيل موعد العمل. وقد يعوّضها البعض بقراءة الجرائد، وتدخل الإدارات والشركات تعديلات مناسبة على مواعيد العمل، ويصير لوقت المغرب رونق خاصّ ومهابة غير عادية، حيث تقلّ الحركة وتكاد تخلو الشوارع أثناءه من السيارات والمارّة، لكنّها تعود بعده كأشدّ ما تكون. حتّى طريقة ضبطنا لمواعيدنا المختلفة يلحقها التكيّف، فقد اعتدنا أن تكون جلها مضبوطة بالساعة، أما في رمضان فتجري على ألسنتنا كلمات مثل "نلتقي بعد المغرب" أو "كلّمني بعد صلاة التراويح" ونحو ذلك.
أمّا وسائل الإعلام فلا تسل عن تكيّفها، فهي تريد أن تكون "تعمل الكيف" مثل الجرائد التي يخصص بعضها صفحات دينية أو ملاحق رمضانية خاصة، وتقدّم القنوات التلفزية والإذاعات جرعة دينية زائدة وجرعات مسلسلاتية أزيد تظهر فيها نجوم وتختفي أخرى.
ولا تسل عن التكيّف الاقتصادي والتجاري منه على الخصوص، حتّى أنّه يمكن اقتراح علم جديد يطلق عليه "علم الاقتصاد الرمضاني" مع العلم أنه اقتصاد لا اقتصاد فيه، لأنّه قائم على الإسراف أي على وفرة السلع والخدمات وكثرة الاستهلاك على حدّ قول الله تعالى ﴿ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ﴾ (سورة البلد: الآية 6).
والحاصل أنّ رمضان يضفي على الحياة لونا مختلفا ومذاقا خاصّا نفتقدهما منذ الأيام الأولى من الإفطار حيث يفقد وقت المغرب أهميته بعد أن كان موعدا حاسما ومنتظرا بفارغ صبر أو بفارغ بطن.
وفي رمضان يثبت الإنسان أنه إنسان إذا صام إيمانا واحتسابا، ومارس عبادته بلا ضجر بل بفرح ورغبة، كما يثبت أنّه قادر على التكيّف مع المتغيّرات. والمهم أن لا يكون هذا التكيّف جرعة عابرة بغير تخزين، لأنّ مقصد رمضان يمتدّ إلى ما بعده حين يكون محطة مركزية للتزوّد بشحنة قوية من الإيمان والإرادة. إنّه زاد للمسير، وطاقة للترقي، وفرصة للأمل في الجنة والعتق من النار، ولكن بشرط أن لا نعتبره ضيفا ثقيلا بل نحن ضيوفه ندخل زمنه المبارك لنغسل ذنوبنا، ونخفّف أوزارنا، ونحسّن ما تكتبه الملائكة في صحائف أعمالنا خصوصا وأنّ الأجور تتضاعف فيه إلى مقادير لا يعلم قدرها إلاّ الله تعالى. وأخشى ما نخشاه أن تتضاعف الأوزار إذا عجزنا فيه عن التكيّف، أو تكيّفنا بطرق غير مطابقة لمقاصده.
ومع ذلك فالفرصة قائمة، وأبواب الأمل مفتوحة، ورحمة الله واسعة، ولا يأس مع الأمل، ولا عجز مع الإرادة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق