الفاتحتان

للقرآن الكريم فاتحتان : فاتحة ترتيل، وفاتحة تنزيل، وفاتحة الترتيل موضوعية، بينما فاتحة التنزيل تاريخية. والأولى هي سورة الفاتحة بينما الثانية هي سورة العلق، أو على وجه الدقّة مطلعها المتكوّن من خمس آيات أولها قوله تعالى ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) ﴾ ومعلوم أنّها نزلت ليلة القدر من شهر رمضان المبارك.

وكلّ سورة منهما لها موقعها المناسب من الترتيب. فسورة العلق ظفرت بالموقع الأول من ترتيب النزول، وسورة الفاتحة ظفرت بالموقع الأوّل من ترتيب التلاوة.

والافتتاح يدل على الابتداء والتأصيل أو التأسيس، فهما بهذا المعنى سورتان تأسيسيتان، إذ أسّست سورة الفاتحة بداية تلاوة المصحف، بينما أسّست سورة العلق بداية تاريخ الوحي.

ووجود الفاتحة في طليعة المصحف المتلوّ مبنيّ على تناسب موضوعي يتمثّل في كونها "أم القرآن" أي أصله وجوهره، أو ناصيته التي مَنْ أَخَذَهَا بِقُوَّةِ فهمٍ وعملٍ فقد أخذ بمجامع القرآن، وأمسك مفتاحه الذي تفتح به مغاليقه وأسراره المكنونة. فسورة الفاتحة بآياتها السبع المثاني فيها تأصيل تقعيدي لجوهر مقاصد القرآن، إذ تتضمّن المرتكزات المركزية والعامة التي فصّلتها جميع سور القرآن وآياته. إنّها تأطير مضموني محكم الصياغة لكافة قضايا الكتاب المبين.

أمّا ورود سورة العلق في بداية النزول فمبنيّ على تناسب تاريخي يراعي زمن البداية وحيثيات الانطلاقة. لذلك كانت فاتحة هذه السورة أمرا إلهيا جازما بالقراءة. فهذا الذي سينزل على محمّد صلى الله عليه وسلم من فاتحته المدونة إلى سورة الناس الخاتمة نصّ مقروء اسمه القرآن، لا يمكن فهمه وتبليغه والعمل به إلاّ بتأسيس فعل القراءة بوصفه نشاطا ذهنيا واعيا تتمثله الأمّة، وتجعله محور حركتها في التاريخ والمجتمع.

إنّ الأمر بالقراءة في فاتحة النزول هو أولّ أمر ينزل في القرآن، فهو بذلك أوّل واجب على الأمة، أو أوّل تكليف تتحمّل مسؤوليته. إنّه الانطلاقة الجذرية التي تتأسّس عليها حضارة الوحي الإلهي الخاتم. فهو لبنة المشروع الحضاري الذي سيغيّر المسار التاريخيّ لأمّة أميّة غلبت عليها الثقافة الشفاهية.

فاللحظة الأولى التي اتصل فيها المطلق بالنسبي كانت لحظة مفصلية فارقة أصّلت فعل القراءة، ورفعت مكانة التعلّم بالقلم. إذ حوّلت الأمة من ضيق الثقافة الشفاهية التي تنوء بحملها الذاكرة عند طول الأمد إلى سعة الثقافة الكتابية التي تقيّد العلم بالقلم وتضمن تناقله عبر الأجيال. لذلك كانت هذه اللحظة إعلانا عن ميلاد أمّة ذات كتاب.

إنّ هذا الكلام الذي ذكرناه ملخصا له غور ليس هذا موضع تفصيله، وإنّما يكفينا في هذا السياق أن نشير إلى أنه يؤكد لنا أمرا ضروريا لا بدّ من مراعاته عند فهم القرآن والاجتهاد في تأويله، وهو أنّ ترتيب النزول مخالف لترتيب التلاوة. بمعنى أنّ القرآن له ترتيبان : أحدهما ترتيب تلاوة مدوّن في المصاحف بدايته سورة الفاتحة وخاتمته سورة الناس، وثانيهما ترتيب نزول بدايته سورة العلق وخاتمته سورة النصر التي هي آخر سورة نزلت كاملة، وهذا يعني أنّ القرآن له من حيث السور خاتمتان : خاتمة ترتيل هي سورة الناس التي رقمها في المصحف "114" وخاتمة تنزيل هي سورة النصر التي رقمها في ترتيب النزول التاريخي "114" إذ نزلت بعد سورة "براءة" التي ترتيبها في النزول "113" بينما ترتيبها في التلاوة "9". أمّا آخر آية في ترتيب النزول فهي ليست ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ... ﴾ (سورة المائدة : الآية 6) كما يظن كثير من الناس لأنّ هذه الآية نزلت في حجة الوداع التي عاد إثرها الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة وتوفي بعدها بحوالي بضع وثمانين يوما. وأرجح الأقوال وأصحّها أنّ آخر آية نزلت هي قوله تعالى ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ (سورة البقرة : الآية 281) وهي تاريخيا مؤذنة بالوفاة إذ توفي الرسول صلّى الله عليه وسلم بعدها ببضعة أيام. وكذلك الأمر بالنسبة إلى سورة النصر التي فهم منها الصحابة دنوّ أجل الرسول صلى الله عليه وسلم.

والحاصل أنّ ترتيب تنزيل السور والآيات أمر اقتضاه تنجيم القرآن، وهو ترتيب تاريخي يساوق مسار الرسالة، ويحايث أحداث الواقع، ويراعي التدرّج الذي يسير بالأمة نحو عظائم الأمور بيسر ومكث، فكانت كلّ آية مطابقة للواقع العملي الذي نزلت فيه.

لكنّ الله تعالى لم يأمر نبيّه بتدوين القرآن في كتاب يراعي ترتيب النزول، لأنّ هذا الترتيب كان مناسبا للواقع الأوّل الذي نزل فيه، ولو حصل هذا لكان القرآن مجرّد كتاب تاريخ يحكي سيرة الأوّلين. إنّما أمره بتدوينه حسب ترتيب آخر يقوم على تناسبات وارتباطات موضوعية وأسلوبية تتجاوز أسباب النزول وواقعها الأوّل. فترتيب التلاوة حرّر النص القرآني من قيود التاريخ وجعله نصا صالحا لكل التاريخ الموالي ومساوقا لحركة الزمن المتطور عبر المستقبل، لذلك قرر العلماء قاعدة معروفة مضمونها أنّ "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" فترتيب النزول خاص بالزمن الأول، بينما ترتيب التلاوة عام لأزمنة التنزّل الاجتهادي والعملي على الواقع المتجدد، وقد تمكن المفسرون من فتح باب علم يبحث في التناسب بين ترتيب الآيات والسور، وهو نافذة دلالية هامة تمكّن القارئ من استكشاف العلاقات الداخلية الرابطة بين مكونات النص القرآني المتناسق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق