ذكرت في ورقات أخرى أنّ رمضان زمن نسبيّ واستثنائيّ، وركزت على نسبيته الشعورية بالنسبة إلى الصائمين الذين يختلفون في كيفيّات أدائهم للصوم فيختلف وقع زمن الإمساك عليهم.لكنّ هذه النسبية لها أبعاد في المقاييس الربانية تخترق التاريخ، وتتجاوز الأعمار العادية للبشر، يصير بها رمضان أكثر من شهر، متحرّرا من قيود الزمن المعتاد، ومشرفا على حركة التاريخ بل موسّعا في قيمة الأعمار.
والبركة كما ذكرت أكثر من مرّة هي الزيادة والنماء، وهي مضافة إلى الله تعالى يحدثها في أي شيء يشاؤه أو أيّ زمن يريده. والبركات التي خصّ بها الله تعالى رمضان كثيرة تعود أكثرها إلى ما وقع فيه من أحداث في الزمن التأسيسي. وتتمثّل أهميّة الزمن التأسيسيّ في أنّه أصّل الأصول وبنى القواعد ولم تبق آثاره حبيسة تاريخه البكر الذي كان، بل امتدّت بحارا تمدّها أبحر متدفقة في شرايين الفعل الحضاري عبر التاريخ.
وبركة الزمن إنّما تظهر بما يبدعه فيه الإنسان من إنجازات تتجاوز ذاته ليعمّ نفعها المجتمع والأجيال، وكم من إنسان عاش حسابيّا عمرا قصيرا لكنّه كان عمرا مباركا ممتلئا بالإبداع والإضافة فصار اسمه محفورا في ذاكرة التاريخ، وكم من إنسان طال عمره بغير بركة لأنّه دخل الدنيا وخرج منها دون أن يخلف بعده أثرا طيبا أو سنة حسنة، أو صدقة جارية.
ويمكن تقسيم الزمن المذكور في القرآن والسنة إلى أربعة أنواع :
1-الزمن العادي : وهو الزمن الحسابي المعروف، الذي اصطنع له الناس مقاييس تختلف من عصر إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى كاختلاف الزمن الشمسي عن الزمن بالمقياس القمري. أما مقاييسنا اليوم فهي أكثر دقة وأتقن تفصيلا.
2-الزمن الحرام : والحرام هنا من الحُرمة بضم الحاء التي جمعها حُرُم، فكما أنّ الله تعالى جعل بيتا حراما ذا حرمة خاصة، وجعل دم الإنسان وعرضه وماله حراما لها حرمة تمنع الاعتداء عليها فقد انتخب من الزمن أربعة أشهر جعل لها حرمة مخصوصة هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب. وأبرز مظاهر حرمتها أنه تعالى حرّم فيها القتال تعويدا للناس على السلم الذي هو خيار استراتيجي في الإسلام، كما ضاعف فيها أوزار المحرّمات حتى تترسّخ في وعي الناس خطورة المظالم والاعتداء على المحرّمات.
3-زمن التاريخ المبارك : وهو زمن الأحداث التاريخية الفاصلة التي امتدّت آثارها إلى ما بعدها، مثل حدث الهجرة من مكّة إلى المدينة، وموقعة بدر التي وقعت في رمضان، وفتح مكّة الذي تمّ في رمضان أيضا. وقد وصفنا هذه البركة بأنّها تاريخية، لأنّ هذه الأحداث مضت وانقضى زمنها، والبركات التي نزلت فيها لا تتكرّر سنويّا عبر الزمن، ولم يشرع الإسلام في أيامها عبادات مخصوصة، فتشريع الصوم في رمضان لم يكن بسبب غزوة بدر بل بسبب نزول القرآن، وغاية ما في الأمر أنّ هذه المعركة وقعت في رمضان كغيرها من الأحداث الهامّة التي اجتهد المؤرّخون في سردها. وبما أنّ التاريخ كما يقال لا يتكرّر أو لا يعيد نفسه فنحن لا نعيش هذه الأحداث مجدّدا، ولا تنزل فيها البركات بصفة دوريّة، وإنّما نحيي ذكراها ونستلهم منها الدروس، ونستكشف منها ما أمكن من قوانين صناعة التاريخ، فبركاتها تذكّرية واستلهاميّة تزداد بقدر عمق استنتاجاتنا.
4-الزمن المبارك : وهو زمن لا تنحصر بركاته الروحيّة والمعنويّة في لحظاته التأسيسيّة الأولى، بل يجعلها الله تعالى تمتدّ عبر بقيّة الزمن بحيث تتكرّر البركات دوريّا كلما تكرّر ذلك الزمن. لذلك فإنّ أيّام الزمن المبارك ليست كالتاريخ المبارك الذي نتذكّره بل نعيشها فعلا كلّما حلّ موعدها، وننخرط فيها أو نتّحد معها بالوعي والفعل والشعور. فتظلّلنا سحائب لطفها كلّما عشناها بالروح والقلب وتزيد البركة في ثوابنا وأفعالنا وأعمارنا.
ومن هذه الأزمنة المباركة ليلة القدر التي نزل فيها القرآن، فهي ليست كموقعة بدر التي قلنا إنّها تاريخ مبارك، بل إنّ البركات فيها تتنزّل كلّما تكرّرت في إحدى ليالي العشر الأواخر من رمضان، ومن بركاتها أنّ الذي يقومها متعبّدا يغفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وأنّه يستجاب فيها الدّعاء، وأنّ الملائكة التي نزلت مع الروح جبريل في الليلة الأولى التي نزل فيها القرآن يعيد الله تنزيلها في كلّ رمضان، وذلك خلافا لغزوة بدر فإنّ الملائكة التي نزلت فيها لتثبيت قلوب المؤمنين لا تتنزّل مجدّدا كلّما أحيينا ذكرى ليلة وقوعها لأنّها تاريخ مبارك كما قلنا. والدليل على تكرار نزول الملائكة في كلّ ليلة قدر قوله تعالى في سورة القدر نفسها ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ وفعل "تنزّل" تفعّل من النزول يدلّ بصيغته المضارعة على الاستمرارية وتكرار الحدث.
ومن بركاتها أنّها خير من ألف شهر أي أكثر من حوالي أربع وثمانين سنة. وهي بذلك تبارك في أعمارنا القصيرة، فمن عاشها بوعي تعبّدي خالص فكأنّما يضاف إلى عمره القصير عمر آخر يتجاوز الثمانين سنة، وهو عمر مكوّن من ثواب خالص يكتب في صحائف الأعمال لا تحذف منه ساعات النوم وأيام الغفلة التي تحذف من أعمارنا العادية.
والأيّام المباركة التي تتكرّر بركاتها كثيرة منها أيّام رمضان، وأيّام العيدين، وأيام الجمعة، ويوم عرفة، والليالي العشر من ذي الحجة.
ما أكثر الأيّام المباركة التي تمرّ بنا ونحن ساهون عنها لا نحدث فيها عبادة، ولا ننجز فيها عملا صالحا يبارك في أفعالنا وأعمارنا. ففرص الخير كثيرة ومتكرّرة، والتدارك ممكن لكلّ من ألقى السمع وهو شهيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق