ليس من أدب المسلم أن يجعل شرط ائتماره بأمر ربّه معرفة علّة كل أمر، فمعرفة المقصد حق من حقوقه التي منحها له الله تعالى، لكن ليس إلى حدّ أن يكون شرطا يمتنع بدونه عن الطاعة. فأدب الإيمان يقتضي الائتمار عند الأمر بلا قيد، وله أن يسأل عن الحكمة ليطمئنّ قلبه، وليزداد وعيه بالعبادة عند الممارسة. وقد سأل إبراهيم الخليل ربّه أن يكشف له كشف رؤية ومعاينة سرّ إحياء الموتى لا عن شكّ وتردد، بل عن إيمان حاصل بعلم اليقين يريده أن يرتقي إلى درجة عين اليقين قصد بلوغ أقصى مراقي اطمئنان القلب.
ونحن عندما نصوم إنّما نصوم أساسا لأنّ الله أمرنا بذلك، لكنّه سبحانه لم يبخل علينا ببيان بعض وجوه الحكمة من ذلك مثل قوله ﴿ لعلكم تتقون ﴾ ، ولم يمنعنا من النظر في آثار حكمة الصوم التي تظهر في صحة الجسم وتزكية النفس وتضامن المجتمع.
ولنا أن نسأل لماذا فرض الصوم في رمضان دون غيره من شهور السنة؟ لا شك أنّ هذا اختيار ربّاني، ونحن نثق في حكمة الله من كلّ اختيار. وهو سبحانه يفعل ويختار، لكنه مع ذلك تفضّل علينا ببيان وجه ظاهر من وجوه الجواب فقال﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ﴾ ( سورة البقرة : الآية 185 )
والملاحظ أنّ القرآن رغم إشارته إلى عدة الشهور عند الله وإلى الأشهر الحرم فإنّه لم يذكر أي شهر باسمه الخاص سوى شهر رمضان الذي شرّفه بإعلان اسمه ليميّزه عن بقية الشهور، فقد تبنّى التسمية العربية لهذا الشهر فصار لها بذلك طابع مقدّس لا يجوز تغييره، وقبل أن يقول لنا ﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ ( سورة البقرة : الآية 185 ) نبّهنا إلى القيمة العظمى التي حظي بها هذا الشهر بسبب حدث مركزي في تاريخ النبوة، هو حدث نزول القرآن خاتم الكتب، وكلمة الله الأخيرة للإنسانية.
إنّ بداية نزول القرآن في هذا الشهر حدث تأسيسي دشّن ميلاد أمّة جديدة وركّز أصول حضارة عالمية تخاطب كل الأجناس بلا فوارق، وتبشر بمطلع فجر مشرق بنسائم الرحمة ومشعّ بلطائف الخير وفضائل التعارف.
وربط عبادة الصوم بحدث نزول القرآن فيه إشارة إلى أنّ مناسبة النزول ليست أمرا عابرا في التاريخ بغير تأثير، ومع أنّ المؤمن يتصل بالقرآن كامل شهور السنة فإنّ تثمين اتصاله به في شهر رمضان بالذات له دلالات بعيدة الغور ليس من أقلها أهمية استحضار زمن النزول الأوّل الذي هو زمن التأسيس، فاللحظات الأولى التي التقى فيها المطلق بالنسبي، وعرف فيها محمد صلّى الله عليه وسلّم جهد المعاينة الأولى لملك الوحي جبريل هي لحظات لم ينحصر تأثيرها في ذاتها بل امتدّ إلى ما بعدها منذ أن قال الملك لنبي الهدى "إقرأ" تلك الكلمة المفتاح التي فجّرت ينابيع العلم في الحضارة، وأنارت مصابيح الهدى لتغيير أمة طال بها زمن غياب الوحي منذ إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل اللذين رفعا قواعد البيت.
وعلى ذلك فقيمة شهر رمضان وثيقة الصلة بقيمة نزول القرآن، وكما أنّ القرآن نزل لتغيير النفوس فإنّ الصوم الذي يغيّر مظاهر حياتنا وعاداتنا من شأنه أن يساعد الصائم على تغيير ما بنفسه من السلبيات التي صعب عليه التخلص منها.
وقد كان الرسول الكريم كثير تلاوة القرآن في رمضان، بل كان يعرضه على جبريل في كل رمضان، ومن هنا رسخت سنّة التراويح التي يختم فيها القرآن، وتعددت مظاهر احتفائنا بهذا الكتاب العزيز في هذا الشهر المبارك.
وإذا كنا مأجورين على تلاوة القرآن في هذا الشهر أجرا مضاعفا، فإنّ هذا الأجر يزداد تضاعفه عندما تكون التلاوة مصحوبة بالتدبّر، وعندما يكون التدبّر متبوعا بصالح الأعمال التي هي أفضل ترجمة واقعية لهداية القرآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق