حثّ النبي صلى الله عليه وسلم أمّته على السّحور، وأكّد أنّ فيه بركة، وأمرنا أمر ندب واستحباب لا أمر جزم وإيجاب أن نؤخّر موعده، لأنّه بذلك يكون عونا على مكابدة جوع النهار وعطشه، وإنّما سمّي السّحور سحورا باسم الزمان الذي يستحبّ إيقاعه فيه، وهو السّحر، أي آخر الليل الذي يلامس وقت الفجر. ووقت السحر له سحر خاصّ يعرف رونقه الشعراء الذي قال أحدهم "سمعت صوتا هاتفا في السّحر" وقال في موضع آخر" أفق خفيف الظل هذا السّحر"، وإذا تجاوزنا أغراض الشعراء وأحلامهم فإنّ العبّاد لهم عشق خاصّ للتبتّل في السّحر لعلمهم أنّ ﴿ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ (سورة المزمل: الآية 6) وليقينهم أنّ ربّهم يحب المستغفرين فيه كما قال ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ (سورة آل عمران: الآية 17) وكما قال أيضا في مدح الأتقياء ﴿ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ (سورة الذاريات: الآية 18). فالزمن زمن بركة وكلّ ما يقع فيه على سبيل التعبّد له قيمة عالية في موازين الثواب، لذلك كان التسحّر فيه عبادة فاضلة، ورغم أنّ السّحور أكل وشرب فله ثواب العبادة لأنّه معين عليها بوصفه سندا لجسم الصائم.
وتناول السّحور في الأصل مسؤولية فردية أو لنقل أسرية تقوم له الأسرة متى شاءت أو يسهر له الفرد إلى الوقت الذي يقدر عليه، ولكن قد يصعب على طوائف من الناس أن يستيقظوا في وقته الأفضل أو أن يضبطوا موعده خصوصا في الأزمنة القديمة التي لم يعرف فيها الناس اختراع الساعة، فالليل أظلم وتحديد الوقت عسير لذلك جعل الإسلام مسؤولية السّحور جماعية فرتّب الرسول صلّى الله عليه وسلّم مؤذنَيْن أولهما ابن أم مكتوم الذي كان يؤذّن في الليل قبيل الفجر أي في السحر لينبّه الناس إلى اقتراب الفجر حتّى إذا تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر أذّن بلال، ومازلت أذكر أيّام صغري أنّ مؤذن مسجد قريتنا يؤذّن أذانا أوّل ثم يخرج يتمشّى أمام المسجد وهو يدخّن سيجارة ملفوفة أو من نوع ثقيل ثمّ يؤذّن بعد ذلك لموعد الفجر. لقد كان العمل بسنّة الأذانين موجودا لمّا كان الأميون أكثر من القراء، إذ كان عوام الناس يميّزون بين وظيفتي الأذانين، ولمّا ارتفعت نسبة المتعلّمين ضعف هذا التمييز وصار أغلب الناس يستشكلون الأمر، لذلك وقع تعويض الأذان الأول بقول المؤذّن ثلاثا "أمسكوا يرحمكم الله" ومع ذلك مازال عدد من الناس يسألون عن جواز الأكل عند هذا التنبيه قبيل موعد الفجر.
لكن الناس قديما لم يكتفوا بتنبيه المؤذّن الأول لسببين على الأقلّ : أحدهما أنّه يؤذّن قبيل الفجر ولا يترك لهم فسحة زمنية كافية يتسحرون فيها على راحتهم، ثانيهما أنه لم تكن لهم مكبّرات صوت، ونداء المؤذّن لم يكن يسمعه جيّدا إلاّ جيران المسجد، ومع أنّه قد يسمع من بعيد بسبب صمت الصباح فهو لم يكن قويا أو مزعجا بحيث يوقظ النائم المكدود الذي يغطّ في الشّخير. لذلك ابتدع الناس وظيفة تواطؤوا على استحسانها هي وظيفة "الطبّال" عندنا و"المسحّراتي " في بلدان أخرى وهي فكرة ألمعية اقتضتها الحاجة وحافظ الناس عليها حتّى صارت جزءا من التراث المرتبط برمضان. وكم كنّا نتمنى أن نشاهد الطبّال ونحن صغار، لأنّ السهر في الخارج والخروج ليلا كان نادرا بين الناس ومحظورا بصرامة على الصغار. وقد كانت هذه الوظيفة مناسبة "للطبّال والزكّار" الذي يتعطّل عن ممارسة مهنته الفنّية في رمضان بسب غياب الأفراح والأعراس. وكم كان جميلا مشهد الطبال ومرافقه "الزكّار" وهما يقفان على رأس الحيّ أو الحارة والأطفال مجتمعون حولهما وأرباب الأسر يجودون عليهما بما تيسّر من النقود كلّ حسب طاقته أو حسب سخائه اعترافا منهم بأهميّة الخدمة التي قاما بها طيلة شهر كامل.
لكنّ الناس اليوم صاروا في غنى عن خدمات هذه الوظيفة لأنّ الساعات اليدوية كثرت، والمنبهات التي واحدها "فيّاقة" انتشرت، وساعات الهواتف المحمولة ومنبّهاتها عمّت وطمّت، والتلفزة لم تعد تنام، وصار كثير من الناس يسهرون إلى ما بعد وقت الطبّال ومنهم أنا، جزء من الليل أقضيه في التراويح، وجزء آخر أخصّصه لجلسة الأصدقاء في المقهى، وجزء ثالث أقضيه في مكتبي مع كتبي وقلمي.
لكنّ كثيرا من الطبّالة وبعض المتطفّلين عليهم مازالوا رغم ذلك مصرّين على التطبيل الذي انقضى زمنه. وقد كنت أشاهد الطبّال وهو يسير في الحي على قدميه عندما كانت القرية صغيرة، ثمّ صار بعضهم يطوف الأحياء على الحمار، ثمّ رأيت آخرين لمّا اتسعت البلدة يطوفون على عربة أي "كريّطة". ولكنّ الأحياء ازداد عددها والبلدة تضخّمت مساحتها ومع ذلك مازلت أسمع الطبّال وأنا قابع في مكتبي أعجب من جهده اللّيلي، إلى أن ألّح على ولدي ذات ليلة أن يشاهد الطبّال، فلما سمعه خرج فرحا إليه، وعندما سألته عنه قال لي إنّه يركب درّاجة نارية أي "فسبة" ومرّ مسرعا، بالطبع هما اثنان أحدهما يقود والآخر يطبّل.
فعجبت من هذا التطوّر الذي حوّل الطبّال من سير بطيء على القدمين يوقظ الناس حقّا إلى سير سريع على "فسبة" يزعج الساهرين ولا يوقظ النائمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق