لا أحد من الصائمين يجهل ما معنى أن يصوم الإنسان. فالكلّ يعلم أنّ الصوم هو الإمساك عن المفطرات المعروفة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس باستثناء بعض المتنطعين الذين شذوا بإنكارهم لصريح السنة وادعوا في العلم فلسفة خاوية فقالوا إنّ الصيام يستمرّ بعد المغرب إلى غياب الشفق، ولهم على ذلك شبهة دليل لا حجّة فيه هو فهمهم الخاطئ لقوله تعالى ﴿ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ (سورة البقرة: الآية 187) مع أنه لا أحد يجهل أنّ الليل يبدأ من غروب الشمس لا من غياب الشفق الذي هو علامة صلاة العشاء.
قلت لا أحد من الصائمين يجهل أنّ الصوم هو الإمساك عن المفطرات المعروفة، ويحمل أغلب الناس فوق ذلك معرفة تكميلية لذلك المعنى المعروف، وهي أنّ الصوم له توابع تحسّنه وترتبط به أخلاقيات سلوكية هي من مقاصده العليا. وهذه المعرفة تختلف وضوحا من فرد إلى آخر. فهي عند البعض مجرّد فكرة عامة أو غامضة لا يعيرها أحدهم اهتماما ولو راودته، ولعله يلجأ إليها عند نقد الآخرين أو عند الخصام ناسيا نفسه. لكنّها قد تكون عند الآخرين وعيا راقيا يجتهدون في التحلّي به ما استطاعوا.
إنّ الصيام كغيره من العبادات مقصده الأوّل طاعة الخالق، وله مقاصد تعود إلى نفس الإنسان وتتجلى في السلوك الاجتماعي، ويجمع تفاصيل هذه المقاصد قول الله تعالى ﴿ لعلكم تتقون ﴾ فإذا ظهرت على الصائمين علامات الترقي في مدارج التقوى، فتلك علامة البركة المطلوبة من الصوم.
وإذا كانت بركات هذا الشهر تضاعف أجور صالحات الأعمال، فإنّ له كذلك حرمة عند الله تضاعف وزر المعاصي التي تقع فيه كالكذب، والغش، والسباب، وبذاءة اللسان، والغيبة، والنميمة، وغير ذلك. فهذه ذنوب لها أوزارها في سائر الشهور لكنّ هذه الأوزار تتضاعف أثقالها في شهر الصيام ويخشى أن تأكل ثواب الصبر على الجوع والعطش.
ولذلك جاء في الحديث الصحيح "فإن كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُثْ ولا يصخب" والرفث هو الكلام البذيء الجارح للحياء، والصخب هو ارتفاع الأصوات بالخصام.
والحاصل أنّ الصوم لا ينبغي أن يقتصر على حواس دون أخرى، ومن الأفضل أن يتوحد كيان الإنسان في ممارسة الصوم بحيث تشترك جميع الحواس في ممارسة فعل الإمساك الخاص بها، فالأذن لها صومها عن التلذّذ بسماع الطعن في أعراض الناس، والعين لها صومها عن ملاحقة ما لا ينبغي النظر إليه، واللسان له صومه في الكفّ عن البذاءة، وقل مثل ذلك في اليدين والرجلين والقلب وغيرها.
في الحديث الصحيح أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشربه" (البخاري).
لفهم هذا الحديث ينبغي أن نستحضر أن الله تعالى لا حاجة له في أعمالنا، فهو غنيّ عن العالمين، ونحن لن نبلغ نفعه فننفعه بطاعاتنا، ولن نبلغ ضرّه فنضره بمعاصينا، بل نحن الفقراء إلى فضله في كل ما نفعل ونترك، وهو سبحانه إنما وضع لنا العبادات وحرّم علينا المحرمات لصالحنا، وواضح أنّ مقاصد الشريعة تعود في جوهرها إلى تحقيق مصالح الإنسان في الدنيا والآخرة.
والأعمال التي ننجزها إنّما هي أعمالنا يحصيها الله لنا وعلينا بخيرها وشرّها، وهو لا يقبل منها ليضعه في ميزان حسناتنا إلا ما كان خالصا من الشوائب ومرتبطا بمقاصده الحسنة ونتائجه المحمودة.
ومن هذه الأعمال الصوم. والأصل أنّ الله تعالى لا حاجة له في صومنا، لكنه يريد بذلك أن يمحّص قلوبنا للتقوى. وأن ينمّي فينا طاقة الإرادة، وأن يوجد في حياتنا عاملا مهما من عوامل تهذيب الأخلاق ونشر قيم الوحدة والتضامن وحسن التعامل، فإذا صمنا عن الطعام والشراب فحسب ونحن نمارس الأخطاء التي يريد الإسلام إزالتها بالصوم فذلك يعني أننا فشلنا في التعلم من مدرسة الصوم، لأننا وإن قمنا بالوسيلة التي هي ترك المفطرات المادية فقد أعرضنا عن الجوهر الذي هو الإمساك عن المفطرات المعنوية.
ولكن إياك أن تقول مادمتُ قد تلفظت بالمحرّمات ولا حاجة لله في صومي فلماذا لا آكل ولا أشرب ! كلاّ، بل الأخطاء الخلقية تنقص ثواب الصوم ولا تبطله، وحاول أن تداوي ذلك بالاستغفار، وبالأعمال الصالحة كالصدقة، وإطعام الطعام وتلاوة القرآن، وصلاة التراويح، فإنّ الحسنات يذهبن السيئات بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق