هل يجهل الصائم منّا في نهار رمضان أنه صائم؟ كلاّ، بل نحن نعلم ذلك حق اليقين بأمعائنا الخاوية وألسنتنا الجافّة. وكلّ طعام نشاهده، وكل شراب نبصره يذكّرنا بأنّنا صائمون. وهي مسألة لا تحتاج منّا إلى قول ولا إلى شهادة شهود لأننا نعيشها بجوارحنا، وكلّ ذرّة في أبداننا تشهد بأنّا صائمون.
لكنّ هذه الحقيقة غالبا ما تغيب عنا إذا نهر أحدنا سائلا أو شتم مخاصما، أو بلغ به الغضب مبالغ غير محمودة فنتصرّف وكأننا لسنا صائمين، ونتكلّم وكأنّه لا يظلّنا شهر مبارك تتضاعف فيه أجور الحسنات كما تثقل فيه أوزار السيئات.
فلماذا نتذكر الصوم في مواجهة الشهوات المادية وننساه في مواجهة عزائم القيم المعنوية؟
وبسبب هذه الغفلة التي يعرفها فينا خالقنا ألهم رسوله الكريم صلّى الله عليه وسلم أن يقول لنا "الصيام جُنّة، فإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل : إنّ صائم، إني صائم" (البخاري ومسلم).
والجُنّة بضمّ الجيم هي الوقاية والحماية. وهي قريبة من الجَنة بفتح الجيم أدخلنا إليها الله وإيّاكم. ومعنى كون الصوم جنّة أنه حصن حصين يبسط وقايته على الصائم بلطف فيحميه من حرّ جهنّم، ويحميه من شر نفسه التي بين جنبيه، ومن شرّ شيطانه الذي يوسوس إليه، ومن شرّ الناس الذين صبغهم الصوم بصبغته الجميلة.
وهذا دليل على أنّ الصوم عبادة مشروعة لمصلحة الإنسان فردا ومجتمعا، فهو ظلّ ممدود، وهالة من اللطف تعبق بأنفاس القداسة والمحبّة والوئام.
إنه جُنّة يريد الإسلام أن يتحول بها صدر الصائم إلى جَنّة مباركة تسير معه حيث سار، وأن تصير حياة الناس في المجتمع جَنّة يطيب فيها العيش، وبذلك يتأهّل الصائمون إلى دخول جَنّة الخلد التي يعملون لها ويتمنّونها.
ثم إنّ الحديث النبوي الذي ذكرناه يقدم لنا نصيحة ثمينة لمواجهة لحظات الغفلة عن حكمة الصوم، ولصدّ مشاكسات الذين ينسون أنّهم في حالة صوم، فإذا سابّك أحد وأراد اصطيادك في شبكة الممنوعات فلا توافقه فيما يراودك إليه، وقل له بصوت مرتفع "إني صائم" بل كرّر له ذلك القول مرات ليعلم أنّك جاد فيما تقول، ولعله يتذكّر أنّه صائم فتنفعه الذكرى.
وليس في كلمة "إنّي صائم" أي علامة من علامات الرياء المحرّم، لأنّ المفروض في الجميع أنّهم صائمون في رمضان، ولا يتميّز أحد عن أحد في ديمقراطية الصوم إلاّ بحسن الخلق. إنّها تكون رياء عندما تقولها لغيرك وأنت صائم صوم التطوع خارج رمضان كيوم الإثنين والخميس، أـمّا في رمضان فهي تذكير عند الغفلة، وموعظة عند المعصية، وعزيمة عند ارتخاء مفاصل الإرادة.
إنها تكون رياء كحالة ذلك الرجل الذي قيل إنّه بينما كان يصلّي إحدى النوافل في خشوع ظاهري إذ سمع جماعة من حوله يثنون عليه بأنّه رجل صالح كثير الصلاة، مداوم على الذكر، متخلّق مع النّاس، لكنّهم نسوا أمرا لم يذكروه، فقطع صلاته والتفت إليهم قائلا "لا تنسوا أنّي صائم !"
تلك الكلمة تكون رياء مضحكا عندما تقال في غير محلّها، أمّا رمضان فهو محلّها اللائق وزمنها الذي تنفع فيه.
لذلك قلها أيّها الأخ الصائم في كل موضع ترى فيه أنّ جليسك أو محدّثك سيستدرجك إلى الخروج عن المعقول، واصمت بعدها حيث يحسن الصمت، فإذا قال لك أحدهم مثلا: متى تنتهي الفتنة الطائفية في العالم العربي؟ فقل : اللهمّ إنّي صائم، وإذا قال لك : لماذا لم يتّحد الفلسطينيون إلى الآن في مواجهة عدوّهم الغاصب فقل : اللهمّ إني صائم، وإذا قال لك لماذا يختلف المسلمون في تحديد موعد رمضان ويوم العيد رغم تطوّر علوم الفلك وسهولة وسائل الرؤية فقل : اللهمّ إني صائم، والحاصل إذا أراد منك الحديث عن أي شيء يدعو الحليم حيرانا فقل : اللهمّ إني صائم.
ثمّ لا تقل هذه الكلمة لغيرك فقط، بل قلها لنفسك في نفسك، واهمس بها إلى قلبك في لحظات الشرود عن حكمة الصوم، فإذا همّ لسانك أن يقذف بذاءة فقل في نفسك "إني صائم" وإذا استطابت أذنك كلاما يأكل لحم صديق أو قريب غائب فقل : إنّي صائم، وإذا تابعت عيناك تفاصيل جسد فاتن فقل : إنّي صائم، وإذا، وإذا إلخ... فلا تبخل على نفسك الأمّارة بالسوء بهذه الكلمة التي قد تحميك من مخاطر الغفلة.
وليس لي إلاّ أن أقول بعد هذا الذي قلت سوى " اللهمّ إنّي صائم".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق