من الدلالات عل أنّ رمضان شهر البركات الوفيرة أنّه كان ظرفا لنزول القرآن الكريم مصدقا لقوله تعالى ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ﴾ ( سورة البقرة : الآية 185 ) بل إنّه نزل في ليلة واحدة منه هي ليلة القدر التي وصفها الله تعالى بأنّها ليلة مباركة. وليس معنى ذلك أنّه أنزل كلّه في تلك الليلة من رمضان على قلب الرسول صلّى الله عليه وسلم وإنّما المقصود كما يستنتج من كلام المفسرين أنه حدث في تلك الليلة نزولان أحدهما غيبيّ والآخر واقعي. أمّا النزول الغيبي فقد كان كليا إلى السماء الدنيا حيث بقي محفوظا بأيدي الملائكة الذين وصفهم القرآن في سورة عبس بأنّهم سفرة كرام بررة. أمّا النزول الواقعي فقد كان على قلب الرسول الكريم بواسطة ملك الوحي جبريل، والذي نزل منه هو مطلع سورة العلق التي افتتحت بقوله تعالى ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ ( سورة العلق : الآية 1 ) وبهذا يكون المعنى الواقعي لنزول القرآن في رمضان ابتداء نزوله.
والمهمّ أنّ نزول القرآن كان حدثا تاريخيا أسس فاتحة النبوّة والرسالة ثمّ تتابع الوحي ينزل منجّما، يساير واقع الدعوة المحمدية، ويحايث الأحداث بتصحيح المفاهيم، وبيان الأحكام. ومن حِكَمِ هذا التنجيم أخذ الناس إلى أفق القيم السامية برفق وتدرّج بغير طفرة ولاعنت، حتى اكتمل نزوله وختمت الرسالة التي ختمت الرسالات السماوية وأعلنت ختم النبوة وانقطاع نزول الوحي، مؤكدة بذلك ميلاد العقل الاستدلالي المجتهد. فختم النبوة لم يكن نهاية لمطلق التاريخ، بل كان نهاية لتاريخ النبوة الحضوري حيث كان العقل يمارس ما وصفه محمد إقبال بأنه "اقتصاد في التفكير". فالحضور الشخصي للنبي بين الأتباع مع تتابع نزول الوحي يحيط الفكر بغطاء العصمة بقطع النظر عن أخطاء الممارسة التي يقع تصحيحها بالوحي وبتوجيهات النبيّ. وانقطاع الوحي والنبوة يرفع غطاء العصمة، ويحمّل عقل الأمة مسؤولية مواصلة البناء بالاجتهاد الاستدلالي، القائم على تفعيل النصّ ضمن أنساق الواقع المتطور.
وبهذا يكون ختم نزول القرآن للوحي والنبوّة إيذانا بميلاد تاريخ جديد يصنعه الإنسان المؤهل بعد طول حضانة ومران لمواصلة وظائف الاستخلاف الحضاري. ويمكن القول بأنّ هذا الختم كان إعلانا عن انتهاء تاريخ النزول وابتداء تاريخ التنزّل.
وقد كان العلماء القدامى على وعي بالفرق التاريخي والوظيفي بين النزول والتنزّل حتّى روي عن أحدهم قوله " للقرآن نزول وتنزّل : أما النزول فقد مضى، وأمّا التنزّل فباق إلى قيام الساعة".
فنزول القرآن حدث تاريخيٌ انقضى زمنه ابتداء من الليلة المباركة في شهر رمضان وانتهاء بآخر آية وهي على القول الراجح الصحيح ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ ( سورة البقرة : الآية 281 ). وهذا الزمن الماضي مغلق لم يتجاوز ثلاثا وعشرين سنة، لكنّ النصّ القرآني المنزّل فيه وإن كانت كلماته معدودة فإنّ دلالاته ممدودة.
ومن هنا جاء التنزّل الذي مازال زمنه مفتوحا إلى أقصى نهايات الزمان. والمقصود بالتنزّل فهم القرآن وإعادة قراءته، وفكّ رموزه، وتحليل "دلالاته بالاستنباط والتأويل مع تنزيله على الواقع المتجدد. فهذا الزمن المنفتح يتصرف فيه القارئ أو المؤوّل وفق آليات قرائية للنصّ وآليات استقرائية للواقع تجعل النصّ منزّلا بعمق متجدد على الواقع، فهو أي القارئ بإمكانه أن يقرأ في النص ما لم يقرأ من قبل، وأن يستنبط منه عجائب لم تستنبط من قبل، وذلك لأنه كلام الله الذي "لا تنقضي عجائبه ولا يملّه العلماء ولا يخلِقُ على كثرة الردّ" وقديما قال سهل بن عبد الله : "لو أعطي العبد بكلّ حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أوعده الله في آية من كتابه، لأنّه كلام الله، وكلامه صفته، وكما أنّ ليس لله نهاية فكذلك لا نهاية لفهم كلامه، وإنّما يفهم كلٌّ بمقدار ما يفتح الله عليه".
وبهذا ندرك أن القرآن وإنّ نزلت جميع حروفه وكلماته فإنّ دلالاته ومعانيه لم يكتمل تنزّلها، فهو ليس نصّا عاديّا يبوح بجميع أسراره لأوّل قارئ، ويخرج كلّ خزائنه لأبناء عصر واحد، بل إنّ عطاءه لا ينضب عبر التاريخ، ولا يصحّ أن يقال إن أهل العصور المتقدمة لم يتركوا شيئا لمن بعدهم.
ويمكن أن نقول إن القرآن له تنجيمان : أولهما تنجيم النزول الذي كان في الزمن التأسيسي عبر تفرّق نزول الآيات والتدرّج في التشريع. أمّا التنجيم الثاني فهو تنجيم التنزّل أو التنجيم الدلالي الذي تُكْتشف به دلالاته المتجددة عبر توالي العصور وتطور التاريخ بناء على قوله تعالى ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ ( سورة فصّلت : الآية 53 ) فما رأته الأجيال السابقة ليس كل المعنى ولا مطلق الدلالة بل سيرى المقبلون فيه ما لم يره غيرهم.
وذلك لأنّ قارئ القرآن إنما يتعامل مع نصّ هو صفة من صفات الله تعالى، وكما أنّ صفاته لا تنتهي، فإنّ فهم كلامه لا ينتهي، فهو منفتح إلى الأمام بغير حدود ولا حواجز تمنع البحث والاجتهاد.
فهل بعد هذا يجوز لأحد أن يحتكر فهم المطلق الذي لا يحتكر، وأن يدعي أنه امتلك ناصية الفهم النهائي للقرآن الذي لا ينتهي فهمه !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق